الطريق إلى حيفا
بقلم : محمـد علوش
هي الرحلة الأبهى.. الرحلة الجبلية.. الأصعب والأقرب إلى القلب، حيث أمضيت يومين رائعين في مدينة الحلم، في حيفا بصحبة رفاق وأحبة أعزاء غمرونا بالمحبة والوفاء في نادي حيفا الثقافي برئاسة الرفيق العزيز والصديق الرائع المحامي فؤاد مفيد نقارة .
بدأت الرحلة عند ظهر يوم الخميس، فرغم كل معوقات الاحتلال وسياسة الحصار والملاحقة والتنكيل بالمواطنين على ما يسمى بفتحات الجدار خلال أيام العيد، ذهبت إلى عدة فتحات فكانت موصدة بالأسلاك الشائكة والجنود المدججين بالجريمة إلى أن وصلت إلى فتحة على الجبل الشمالي لبلدتنا وعبرت، وكان عبور فرح وانتصار وعبور إرادة لا تعرف الانكسار.
وصلت إلى باقة الغربية، المدينة الجارة الحبيبة على قلبي ومنها إلى كفر قرع المدينة الوادعة والواعدة التي تكبر يوماً بعد يوم في سباق مع الوقت تمتد كدالية خضراء تعشش على أغصانها قصائد الشعراء، حيث زرنا الرفيق الحبيب الشاعر د. حسام مصالحة في بيته العامر ، ودار حديث طويل حول الثقافة والأدب والفنون ، ومنها كانت نقطة الانطلاق إلى حيفا .. حيفانا .
حيفا حارسة الحلم وأيقونة البحر المتوسط وقلادته المعتقة كما هي قصائد وقلائد الشاعرة ريتا عودة ، وقد تخيلت حيفا قبل أن أصلها، عشت معها في حلم اليقظة ماراً بالعديد من البلدات المتناثرة هنا وهناك على جانبي الطريق والتي تحفنا بالذكريات وتدعونا لمواصلة المسيرة وأن نصرخ ملء حناجرنا .. نحن هنا وهنا باقون .
الله، ما أجمل أن يتحول الحلم إلى حقيقة .
وصلنا حيفا ، عروس المتوسط وصعدنا في طرقاتها التي تكتب الذكريات وتعيد نبض من مروا من هنا من قامات وهامات حيفا الشامخة ممن قرأنا لهم أو عنهم أو ممن خلدوا قصص وسردية حيفا في القلوب والعقول، ومشينا في شوارعها التي تنبض بالعشاق من كل ناحية ، فهنا شارع النسناس وهنا شارع قريب من بيت توفيق طوبي وهنا شارع إميل حبيبي ومن هنا مر أبو سلمى الكرمي وهنا كان إميل توما وهناك صعد حنا نقارة ومن هنا كان لعز الدين القسام صولاته في جامع الاستقلال الذي بقي شاهداً وشهيداً على سيرة حيفا الباقية وهنا مدرسة الاستقلال وذكريات محمد علي الصالح فيها مؤسساً ومربياً وهنا قصائد البحيري وأحلام أحمد دحبور، وهنا وهناك ذكريات أكبر من أن تمحوها نكبة مر عليها أكثر من سبعة عقود ، وما زالت حيفا تنطق بالعربية الفصحى ، رغم كل ما يحيط بها من تهويد وأسرلة ومشاريع تذويب للهوية والحرب على المكان وعلى هوية ورواية المكان ، حكايات وسجايا ومكارم أفعال لا تنسى وستبقى محفورة في الوجدان، كيف لا وهذه الذكريات محمولة من قلب الوجع لمن كتبوا بالشظف المّر مآثرهم .
وصلنا إلى كنيسة حنا المعمدان – المجلس الملي الأرثوذكسي الوطني ، حيث يقيم نادي حيفا الثقافي أمسية ثقافية بمشاركة عدد واسع من محبي الثقافة والإبداع من حيفا ومن بلدات الداخل الفلسطيني القريبة من حيفا ، ونادي حيفا له أمسية يطلق أجنحة طيورها الملونة كل يوم خميس احتفالاً بالكتّاب والأدباء والمبدعين ، وكان لقاء الخميس لهذا الأسبوع تجربة تستحق الاحتفاء والاكتشاف مع البروفيسور جريس نعيم خوري وإشهار كتابيه ” هوية الأدب وأدب الهوية ” و ” عزف على نشاز “، بمشاركة الدكتور رياض كامل ، والدكتور منار مخول ، وعرافة الشاعر أنور خير .
وكم كنت سعيداً وفخوراً ومندهشاً ومسكوناً باللحظة عندما افتتح الندوة صديقي المحامي فؤاد نقارة مرحباً بالمشاركين ومرحباً بي وبرفيقي مناضل حنني ، حيث دعاني للصعود إلى المنصة لأقرأ بعض قصائدي والتي كنت قد عزمت على قراءتها من قبل وهي قصائد : “حيفاي” و” عيبال على ساعدها” و “أعراس الخليل” ، وكانت من أجمل اللحظات ، حيث عشت الحلم حقيقة على منبر نادي حيفا الثقافي وفي حيفا التي عشقتها دائماً ، وقد أبهرني هذا التفاعل الايجابي من قبل المشاركات والمشاركين في الأمسية .
وكم كانت سعادتي كبيرة أيضاً بالاستماع إلى مداخلات د. رياض كامل ود. منار مخول حول كتابي البروفيسور جريس نعيم خوري والذي تعرفت على تجربته من خلال هذا اللقاء الذي يجمعنا لأول مرة وقد شغفتُ حباً بتجربته وبكتاباته الجريئة والممتعة بأسلوبه المميز وبداهته اللافتة ، وسعدت كذلك بإدارة الصديق الشاعر أنور خير للأمسية وقراءاته الشعرية بين الفقرات وكان لي شرف اللقاء به والتعرف عليه من قبل في جنين حيث شاركت حينها قبل عدة سنوات في لقاء كبير ضم عدد واسع من كتّاب وأدباء وشعراء فلسطين، كل فلسطين في الجامعة العربية الأمريكية .
في المساء نتجول في حيفا بصحبة فؤاد نقارة، الذي حرص على أن يأخذنا بعيداً في حلم حيفا ، وان نعيش لحظات هذا الحلم الكبير، مستعرضاً محطات من تاريخ حيفا كلما مررنا بعنوان مما ، مبنى أو شارع أو محطة أو زاوية لنجد فؤاد نقارة العّراف والمؤرخ والقارئ الحصيف لتاريخ حيفا ، وكم كانت سعادتنا غامرة كلما ذكرنا بذكرى من فيض الذكريات وحيفا بكل ما فيها سجلٌ حافلٌ بالذكريات التي لكل ذكرى منها ألف ذكرى .
إنها رحلة العمر، وأنا الملقب بالسندباد وأنا الذي سافرت كثيراً وزرت بلاداً وبلاد في كل الجهات ، وعندما صعدت منصة حيفا ، قلت للأصدقاء بأن زيارتي اليوم تاريخية ولن تمحى من ذاكرتي ما حييت ، وأنا الذي طفت البلاد وحرمت من حيفا ومن بحرها ومن بلدي ومن حقي فيها بفعل هذا الاحتلال، فاليوم أحقق انتصاراً معنوياً بوصولي إلى حيفاي لأعانق حلمي الذي انتظرته وعشته طويلاً .
من يأتي إلى حيفا لا يمكن أن ينساها ، حيفا مدينتنا الخالدة ، الباقية في علاقتها السرمديّة مع البحر المتوسط ، تعزف ألحانه وتكتب سيرته بحروفها البيلسان.
أقرب من عشق
أبعد من ألف دعاء
قام البحر المتوسط يكفكف دمع الأرض
ويعلن حيفا للأرض سماء
في صلوات الورد
وفي أحلام الفقراء.
فليتقدم هذا الغيث البحري عميقاً
ليواصل فتنته
بين شعوب الأرض
ويمشط شعرك يا حيفانا
ويملأها فرحاً
وزنابق بيضاء لأعراس الفجر
ليشيد حلم الإنسان
ويجعلها لخيول المعنى ساريةً وبريقا.
آتون إليك
نفتش في مجدك عن آيات الرفض
ليرث العشاق حضارات المسك وأشجار النبض
آتون إليك بغيم الحب
نتوج راياتك بالعز
ونعلن أنك يا حيفانا سيّدة الأرض .
من حيفا وكل هذا العناق وهذه الألفة وهذا المشاعر المختلطة وبعد أن غصنا عميقاً في ذاكرة المتوسط وقضينا بعض الوقت من الفجر إلى ما بعد مطلع الشمس حيث كان البحر أليفاً كأنه أبانا الذي انتظرنا طويلاً ، وكنا نصرخ من الأعماق صرخة محمود درويش : هذا البحر لي !
ما أجمل أن تكون السباحة في ظلال الحلم وأن نحلق فوق مدارات الحلم كغيومٍ ماطرة .
تجولنا من جديد جولة صباحية في حيفا ، في الهدار وعند البحر وفي شوارع عديدة لها أسمائها الباقية رغم ما تعانيه من محاولة لشطب أسفارها المجيدة ، فلكل شارع ذكريات وعناوين ضاربة جذورها العميقة في ذاكرة حيفا وحيفا ذاكرتها أقوى من النسيان .
ما زلت انتظر لقاء العمر
أركب الموج
أعانق الحلم
أزرع الأرض نشيداً يغسلني
يبقيني عشيقاً لحيفا
لعروس البحر تقطر تحناناً وخوفا
لتاج المدائن حين تذكر عاشقها
يصبح التذكار سيفا
انتظر الموعد دمعةً دمعة
شمعةً شمعة
في الموت الأخير
في الحج الأخير
في القيامة والحياة
أطوف طواف الإياب
أعانق المستحيل على شرفة صبحها
أبوح بالعشق المؤجل
بالقصيدة والسفرجل
منتظراً حيفا في المحطات القديمة والبعيدة
في الأماني القريبة والبعيدة
وأنزفني على حبل الذكريات
غيروا وجه المدينة
شوهوا جذوة التاريخ
واغتصبوا ذاكرة المكان
أطفئوا وحي اللغة
بقيت حيفا / صعدت حيفا ، هبطت حيفا
وجهاً لأمي .
من حيفا سافرنا إلى عكا وما أحّن عكا وما أعظمها من مدينة ، باقية ومتجذرة فينا ، بتاريخها وعناد أسوارها وفتوة بحرها الهادر ومتانة العلاقات الجامعة بين أبنائها .
تجولنا في عكا القديمة وركبا البحر عناداً وتأصيلاً لهذه الزيارة ، فكيف تزور عكا ولا تعانق بحرها ، وكيف تزور عكا ولا تزور مساجدها وكنائسها وطرقاتها وأسواقها التي تصرخ ليل نهار: (بلادي بلادي بلادي لك حبي وفؤادي).