الحداثة..!

لا أدري أي حرية تلك التى يُنعت بها ما يسمى بـ(الشعر الحر) .. ؟!
هل هي مجرد التولي عن سَنن القوم في نظم الكلام نظما تطرب به النفس وتهش له الأذن ..؟! فيسهل حمله واقتناؤه كوعاء أمين لحفظ اللغة ، وسقاء عذب لظامئي الجمال والحكمة ؟

أم هو- بزعمهم – الخروج من جهالة القدامي وفكرهم الضيق الذي تحَجّر – نظما – عند أوزان مهيبة رتيبة، لا تعبأ كثيرا بذبح الكلمات فداء لبقائها صحيحة النحو سالمة من التعثر .؟

أم هو بعضٌ من تجليات ( الثورة الاشتراكية ) التى عبثت وما زالت تعبث – في صلف وبطر -بكل ثابت مستقر، فتهزه هزا عنيفا ، ولا تتركه حتى تجعله كهشيم المحتظر، فيصبح كل شيء على يديها المدرجة مبتوتَ الصلة عن أصله حتى لكأنه خلق جديد ؟!

ام هو ذلك الإصرار والترصد لهدم المنظومة الفطرية التي درج عليها الإنسان، متسقا بشرعه ومستظلا بعقله، ومحترزا من غرائزه وتسفله وميله وإخلاده وفوضوية حواسه ؟!

ليس صدفة إذن ان يكون كل أو جل حاملي لواء هذا الكلام الهجين (المعدل وراثيا ) هم من جيل انتفاشة الهر، ممن انبطحوا لكل (ماركة) منفلتة من آصرة الدين و أبقة من سُدة الوعي .. كالماركسية والوجودية والفرويدية والداروينية، ..أولئك الذين أطلوا علينا برؤوسهم من نافذة دنقل – والخال – وعلى احمد سعيد والمقالح – وعبد الصبور -وحجازي – ومن تابع السير على دربهم الغريب المريب..
على أن هؤلاء (الرواد)- على تفاضل بينهم – كانوا أقل ولوغا ممن أتوا بعدهم، كونهم الفاصلة الخطأ بين الكلام الطبْعِي الذي يلامس السجايا، ويهامس الحنايا ويداعب الروح، وبين الكلام الدعيّ – وأحيانا الغبيّ – الذي غاية بهرجته أن يظهر كلبؤة لعوب دهنت وجهها بالأصباغ من كل لون لتتملق كل كسول طامح لِقِمّةٍ سامقةٍ، دون أن يتحمل لأجل إحرازها عناء الصعود.

ثم خَلَف من بعدهم خلوف آبقة ، هتكت ستر اللغة ونالت من قواعدها ومرغت كرامتها فصرعتها، ولم تزل تصرع إلى اليوم في أيديهم ، وباتت مسخا شائها ، يُعبث به على قوارع الطرقات، ويُنادي به في كل المحافل من قِبل أشباه لم يحسنوا أن ينطقوا العربية، فضلا عن تطريزها ثيابا صالحة للارتداء الجميل .. إنهم عملاء الغيبوبة وسماسرة الفساد.
وككل ناعق له اتباع … انبرت فئام من الجماهير الداجنة المؤدلجة يمدون هؤلاء الآبقين في الغي مدا  إنها الجماهير المائعة التي قصرت هِمَمُهُا عن التحليق في جو سماء الأجداد، وضمرت حواسها عن تذوق تراثهم الثر.. فانسلخوا من جلدتهم، واستخذوا متكفئين، يروحون ويجيئون في زوايا الحائر المتسخة القادمة التي هيأها الغرب لأمثالهم ..
ما أكثرهم بيننا ضجيجا وطنينا وأذى.. تَشكّل وعيُهم في غيبة من نور .. ونبتت عقولهم في ثرى الحداثة (الممحل) ،وباتوا ككتلة ثلج متميعة، تذوب مع كل لفحة ساخنة، تهب من أي جهة كانت …

يملأون الأرض من كثرتهم
ثم لا يغنون في امر جلل

إن من يقلب البصر في نتاج هؤلاء الأقزام البغام سينقلب إليه بصره خاسئا وهو حسير..إذ لايكاد يرى فيه إلا القليل المقبول والكثير المرذول .. وكلما كان ترتيب النِتاج متأخرا؛ كلما كان أسوأ قدرا وأحط منزلة من حيث الشكل والمضمون.. ولمن يريد أن يرصد هذه الظاهرة ويخرج بانطباعات وخصائص تجمعها؛ سيجدها تأتلف في الكثير، وتختلف في أقل القليل ينظمها خيط التمرد .. ويكسوها عري الانفلات .. وتحذو – اعتراضا – حذو ذي الثديّة

نهاية الأضداد عندهم دين تواصوا به ..
والثورة على الموروث عبادة ..
ووأدُ العفةِ مغاراتٌ يتحنثون في أخبِيَتِها.
وامتهان الديانة دين تواصوا به
فما أسرعهم استجابة لكل ناعق يركب مركب التعويم العقدي، ويستدبر بقوة جدار التراث المنيع .
الغريب في الأمر أن هؤلاء الثائرين على عقائدهم (المفترض نسبتها إليهم) والمنحازين إلى غير فئتهم ؛ هم المسلمون أو الذين يفترض أنهم كذلك ..
مروقهم من ثوابت الدين مروق السهم من الرميّة ..
وانتماؤهم لموروثات غير المسلمين انتماء فج مهترئ ..
واستدعاؤهم لقيم التراث انتقائي عنصري، يكرس لنزعة التمرد

وهل أتاك حديث القافلة الغافلة؟! التى تستلم ركن العبث جازلة حافلة .. يتعاضدون إذا مس أحدهم قارعة من ذوى الولاء والانتماء .. فتهيج كلماتهم هياج المِرّة السوداء.. ويتذاءبون ويكِرون كرّ رجل واحد .. يوزعون أدوارهم.. هذا يسب وذا يخب، وذاك يحكم بالدهاء .. ويُفْرغون على هداة الطريق من سخائمهم وسماديرهم ما تطفح به مقاذع الألسنة من جلدتي لكن أشــد علي من طــعن الرماح.
كرد مندور على حملة العلامة المجاهد محمود شاكر – طيب الله ثراه – لما قام – رحمه الله – بتنفيد أخطاء القزم المبشر لويس عوض واتهام (أدبهم) المستنسخ (بصلبنة) التراث الاسلامي وجعل مفاهيم الخلاص والآلام والفداء روائد سوء لهدم الأسوار الحافظة، استجابة لداعي النزق التجميعي التحريضي على الأوضاع السائدة الفاسدة.

لا غرو … فقد اعتبروا كل ذلك من قبيل الرمزية – الساتر الواقي دائما لتردّيهم – التى يشترك فيها التراثين المسيحي والاسلامي .. فعندهم أن الدم والمصلوب والفداء والآلام طليعة الطبقة الكادحة للخلاص ، وهو الديْن واجب تأديتة كأقساط مقدمة لعصر باذخ من الحرية والعدل والمساواة لم يأت بعد (ولن ياتي بأيديهم أبدا).

ولا أدري لماذا لا يصح في أدمغة هؤلاء أن تكون إرادة التغيير مع معاني الترفع عن الأذى بعد استفراغ الوسع في نثر الفضيلة وبث الحكمة ، هو معنى أسمى و(أنجى) يمثله (بل رفعه الله إليه ).. أم هي شهوة العناد مع كل شيء لم يأت في كتب أنبياء البلاشفة ..أم هو اتباع سنن من قبلنا حذو القذة بالقذة كما جاء في الأثر الوضيء.
كان (لجيل الرواد) شيء من العقل يحفظون به ماء وجههم في خروجهم عن المألوف إذ أن هز الثابت المستقر يحتاج أول الأمر إلى هدوء وتحايل ونعومة وخلخلة.. كان بعضهم ينطلق في رص تراكيبه من قواعد تنتمي في بعض من جوانبها إلى ميراث الأمة ولا تتأبى كثيرا على الذائقة المطبوعة… وأما الخلوف التى تسلمت بيدها المشؤومة الراية السوداء فقد جاءت على أحب ما أراده لهم كبيرهم الذي علمهم السحر..فنَجُم نفاقهم الأدبي، وانساحت طوامهم في كل رجا بغير وعي يهدي أو عقل يكف.
يصرون إصرارا غريبا على التنكر للعقل وينطلقون في رص معانيهم المثقوبة من اللاوعي الغائم .. وعلى المتلقى أن يستخرج ما يعن له من معان إذا استطاع أن يكوّن جملة مفيدة في أي سطر ..ومهما حاول ، فإن الذي يفهمه زيد (إن فهم) هو غير الذي يفهمه عبيد من ذات الجملة.. فهم يعمدون إلى (عدم وضع اللفظ بإزاء المعنى) حتى لا يُحاكمون إلى أصل كما أن في ذلك إغراء لهم بالسدور في الغي بغير اكتراث ودون الإلتفات إلى لزوم ما يلزم من ضوابط اصطلح عليها عقلاء الكلمة ..يتزيون بأردية الكفر أو الإيمان حسبما يتطلب المقام إذ (الحرية ) في الكتابة عندهم غاية الغايات ولا سبيل لاعتراض سيرها بدين أو شرف أو كرامة أو حتى وعي … لا يحده حدّ ولا يحجزه سدّ ولا يرتبط بآخِيَّةٍ تنذره وتقيه .. يقول قائلهم (بُتر لسانُه).. ( لا الله اختار ولا الشيطان … كلاهما جدار.. كلاهما يغلق لي عيني  هل أبدل الجدار بالجدار..)
انظر الى بِرَكهم الآسنة ..سترى القوم فيها صرعى .. وما بهم من صرع، ولكنه التضاد الفطري الذي يطامن خوفهم باستدبارهم لكل معانى الحياة ..
كانت هذه المقدمة وليجة لموضوع طويل عزمت عليه.. حرنت عزمتي منذ مدة .. ولم أعد أرغب حتى الآن في استقصائه …
وعسى الله ان ياتي بالفتح او أمر من عنده ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى