بضعة سنتمترات

هند خضر | سوريا 
كان مساءً مخملياً ناعماً يحملُ على أجنحتهِ حلماً لامسَ أفئدتنا، سبقَ و وشمتُ على كتفه ِ صورتكَ الملائكيّةَ بأدقّ تفاصيلها وأبهى معانيها و هاأنتَ أمامي اليومَ بكلِّ ما فيكَ ، بقامتكَ الهيفاء، حُسنكَ الفتّان، طبقة صوتكَ الرّنّانة ،عطركَ الجذّاب وخطواتكَ الواثقة كما عهدتكَ.
أبدعَ الخالقُ تكوينكَ وكأنّهُ خلقكَ لتُكمّلني ،لألمسَ بيدي حقيقة تواجدكَ اللطيف في عالمي، ليثيرَ في داخلي الرغبة بعناقكَ …
الله كم أعشق كافَ الخطابِ في كلماتي عندما تشيرُ إليكَ!
أرغبُ أن تصلني بكَ (الّذي) من الأسماء الموصولة وأن تدلَّ عليكَ (هذا) من أسماءِ الإشارةِ ليعرفَ كلّ الكون من خلال الضّمير المنفصل أنّهُ ( هو) مالك قلبي ، محرّك نبضي ومحور اهتمامي …
استدعيتكَ إلى دائرةِ عشقي مخاطبةً إيّاكَ بكلّ حروفِ النّداءِ لتتمركزَ فيها وتبقى للأبد فتكلّلتْ نداءاتي بوصالكَ ..
محلّكَ من الإعرابِ في حياتي المبتدأ وبالتّأكيد أنا لكَ الخبر وعلى هذا النّحو نكمّل بعضنا ..
على ذاكَ الرّصيف القابع في مدينتي الهاربة من أفراحها التقيتُ بحلمي في حانوتٍ صغيرٍ ،نعم الأمرُ ليسَ غريباً فالأحلام تتواجد في كلّ مكان غيرَ آبهة بالزّمان، وقد نجدها على هيئةِ شخصٍ ما خزّنَ من الصّفاتِ أجملها وأندرها في صندوقِ روحهِ ،خبّأ من الحبّ أعظمهِ و أنبلهِ في تلكَ القطعة التي تركنُ في الجزءِ الأيسرِ من صدرهِ وجميع ما خزّنهُ و خبّأهُ هو بالطّبع لأنثى وحيدة تمكنّت من جعل قلبهِ ناطقاً بغرامٍ يتغلغل في الأحشاء ويزحف على كل مفصلٍ من مفاصل جسدهِ وتلكَ الأنثى هي أنا …
اللقاء لم يكن بمحضِ الصّدفة، بل كان مفتعلاً منّي، هو لا يعلم أنّني ألاحق خطواتهِ ولهذا عندما دخلتُ إلى الحانوتِ تغيّرتْ ملامحهُ وكأنّهُ يقول: يالها من صدفة مذهلة! ازدادَ معدّل ضربات فؤادهِ، لقد سمعتها حقّاً في الّلحظة التي فصلتنا فيها عن بعض بضعة سنتمترات ،كلانا رمقَ الآخر بشغفٍ لامحدود وابتهاجٍ لامتناهٍ، نظرة خاطفة قصيرة أوصلتْ ما نُخفيه في أعماقنا من عشقٍ ،هيامٍ، ولهٍ شوق وصبابة و….
همسَ لي بصوتٍ خافتٍ: كيف حالكِ؟
خطرَ لي أن أجيبهُ: الآن أنا بخير وإنما تواجدنا في مكانٍ عام فرضَ عليّ طبيعة الإجابة، لكن لا يهمّ فهو يدرك في الصّميم أنّني أتوسّم الخير في محيّاه المنير كقمرٍ في يومهِ الرّابع عشر ..
اشتقتهُ كثيراً فأنا لم أستطعْ التّحدّث معهُ منذُ زمنٍ ليسَ ببعيد …
أردتُ ان أتمرّدَ على واقعي والمعتقدات السّائدة في مجتمعي فأفتعل عناقهُ بدون تفكيرٍ بالمسموحِ والممنوعِ،
رغبتُ أن أغمرهُ غمرةً مجنونةً تروي ظمأنا ،تُنعِش أرواحناوتبتسم معها شفاهنا الكرزية المتوهجة بحرارةِ القُبَلِ كتوهّجِ الشّمس في صيفِ آب ..
أوّاه ما كلّ هذا الحبّ؟
أليسَ لهُ حدوداً يقف عندها؟
أيُعقل أننا سنمضي أعمارنا على قيدِ التّمنّي؟
لاشكّ أننا راودتنا نفس الأفكار وسافرنا مع تخيّلاتنا إلى أقاصي البلادِ رغمَ أنّ مدّة اللقاء لم تكن طويلة وإنّما وصالنا فاقَ الحدود ولغة التّخاطر الموجودة بيننا كانت المسيطرة على الموقفِ مثل كلّ مرّة …
هربتُ معهُ أثناءها إليهِ، فهو سفري، استقراري، سكني، ملجأي و وطني ،أجل هو الوطن الذي أنشرُ فيه كتاباتي ليقرأها العالِم والجاهِل وأروي فيه حكاياتي ليسمعها القاصي والدّاني ..
ساقتني قدماي لأقفَ بجانبهِ وعلى مقربةٍ منه كثيراً، كادَ كتفي الأيمن يلامس كتفهُ الأيسر، وضعتُ يدي بالقربِ من يدهِ على منضدةِ البائعِ المغفّلِ الّذي يجهل تماماً ما بيننا وقلتُ لنفسي: هل سيحلّ الخراب بالمدائنِ إن سيْرتُ أصابعي المتعرّقة لتتّجهَ نحو أناملهِ خلسةً لتسكبَ عليها عسل حبّي وشهد غرامي؟
مرّتْ بضعة دقائق، استمعنا فيها إلى أصواتٍ خرجتْ من خافقينا وأوشكتّ أن تخرجَ للملأ معلنةً خبر عشقنا الأسطوري الخالد والذي بلغَ أعلى درجة من القداسةِ ولاشكّ أنّه الحدث الّذي سيشغل كرتنا الأرضيْة، انتهتْ المهمّة التي ذهبنا من أجلها إلى الحانوتِ، كلّ منّا أخرجَ نقودهُ وأعطاها لذاكَ المسكين الذي اعتقدَ أنّنا غرباء عن بعضنا، لم يكن على معرفةٍ أنّني قصدتهُ في تلك السّاعة المباركة من الإله لأكحّلَ عينيّ برؤيتهِ وأنّ هذا الرّجل الّذي ضجّت بهِ الشّوارع أمسكَ العالم بأطرافهِ العلويّة وحرّكهُ كما يشاء عندما رآني …
غادرتُ المكانَ قبلهُ وما إنْ أصبحتُ خلفَ الزجاج شيء ما جعلني ألتفتُ ورائي لأجدهُ ينظر لي ويتأمّلني بصمتٍ قاتلٍ، يا إلهي! كميّة من المشاعر الّتي ارتدتْ ثوبَ الصّدقِ والنّبلِ أوصلها لي رافقها خفقان شديد في مهجتي وأصابتْ الرّجفة عضلات أرجلي فلم أعدْ قادرةً على تركيزِ مشيتي ولا الانطلاق خطوة واحدة إلى الأمام ..
هكذا التقيتهُ ولا أنكرُ أنّني بلغتُ أقصى درجاتِ السّعادة ِ وحضنتُ الفرحَ بين أذرعي وعانقتُ هواه للانهاية وهو كذلك ولكن …
عدتُ بعدها إلى مكاني، إلى نفسي خاليةً من كل شيء، إلا منهُ، أسقطتُ من تفكيري كلّ فكرة إلا فيما يتعلّق به،
رجعتُ إلى حيثُ يفرض عليّ قدري أن أكون وليس معي سوى قلم و ورقة لأدوّنَ حروفي وكلماتي على سطورٍ تلوّنتْ بالّلونِ الأبيض ما إن باشرتُ الكتابة لهُ وأسكبَ روح مشاعري عليها بكل رقّة ،رومانسية ،شفافيّة ومصداقيّة علّها تصلهُ وتخبرهُ كم و كم أحبّه!
من المؤكّد حين يقرأ ما كتبتهُ لهُ سيضع أصابعهُ على لوحةِ المفاتيح ويرسل لي كلمة واحدة فقط تثلج صدري وتجعلني أسعدَ نساء الكون وهي (أُحبّكِ) …
هذا الكمّ الهائل من الإحساس الجيّاش الّذي يتمدّد ويتكاثر في داخلي لا يليقُ إلّا بهِ .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى