من دفتر فتاة تونسية.. ريح الصدى (5)
بقلم: نزهة المثلوثي
توقف الجمع أمام بيتنا يتقدمهم رجل نحيل الجسم وفي يده سكين كبير لمعت حدته اقترب من الباب وألقى نظرة باحثة سريعة وقد ماج على ملامحه اضطراب وشعت من عينيه حيرة وغيظ شديد
التفت إلى جدتي وسألها بصوت مبحوح لاهث:
_ ما شفتيش عجل؟
_لا ما شفت حتى عجل وبروا لوجوا بعيد
_سامحينا عنا عرس وجينا باش نذبحو العجل هرب لنا
_ اللطف
كلمة واحدة أضافتها جدتي بعد إجابتها الغاضبة المتحدية لاقترابهم من بيتنا ومشيهم في ساحتنا
كلمة لفظتها مشفقة عليهم بعد أن علمت سبب قدومهم وبحثهم كلمة اختزلت تعاطفا ودعاء لأصحاب العرس بالظفر والحصول على العجل المفقود
رفع أحدهم حاجبيه وقد اتسعت عيناه غضبا وحنقا على الخيبة وغياب الطريد وتقدم نحو السانية الكبيرة والسياج وشرع يحرك رأسه في كل اتجاه ويلقي بصره نحو المسالك والمنعرجات …
فتش مرافقاه البئر وكل ما حولها وعبرا حقل اللوز…
واصل الرجال بحثهم متقدمين نحو الطوابي القبلية دون جدوى
أخذت نفسا عميقا وقفزت قفزات تداول أصعد بعد الوقوف على رجل واحدة لأنزل على الأخرى بين التشفي في خسارتهم والفرح بنجاة العجل من السكين والساطور الذي كان سيقطع مفاصله ويقص أطرافه
كيف أدرك لحظة الخطر فاستطاع الإفلات من قبضتهم مطلقا قوائمه للريح نحو ضفة أخرى للحياة
لقد تمكن من العبور بعيدا عن أعينهم وجعلهم يجرون خلف الاحتمالات لاهثين ينخرهم الحرج من ضيوف حفلتهم المدعوين لأكل لحم العجل والرقص على أنغام الطبل.. ركضوا بين الحقول والأودية والمسارب حتى أوصلهم مسلك ترابي إلى الطريق المعبدة والشارع الرئيسي فعادوا أدراجهم يائسين محبطين
لقد فرالعجل في ذلك اليوم من الموت
لكن. إلى أين المفر؟
ولم تكن له وجهة آمنة تقيه شر المصير المحتوم فإن قصد المدينة سيذبحه واجده وإن صعد إلى الجبل أهلكته الحيوانات المفترسة..
لعله انطلق إلى منطقة “الحمامات” فألفى أمنا وسلاما
تساؤلات عديدة داهمتني عن مآل الهارب من الموت نحو القدر المجهول.. لما عاد أبي أخبرته بأمر العجل وفراره .. فأكد لي أنه لن يفر من الموت مهما فعل وأنه آتيه عاجلا أو آجلا
فانتابني قلق الوثوق بأن الكائنات الحية لا مفر لها من الفناء
وثوق تأكد اليوم وأنا أقف في هذا الشارع الكبير بالسيونفيل الذي كانت على جنباته مسالك ترابية و”طوابي” وحقول مخضرة مثمرة آلت كلها إلى زوال كأنها لم تكن يوما لقد جالت فيها أيادي العمال الذين هانت عليهم الأشجار فاقتلعوا جذورها وصبوا مكانها في حفرهم العميقة أخلاط أسس المباني الشاهقة والمساكن الفخمة فتحولت بساتين “السيونفيل” إلى أحياء جديدة بنايات جديدة بشوارع فسيحة معبدة وأرصفتها مبلطة بجليز رفيع أمام واجهات المحلات والمغازات… شوارع قد خلت من المترجلين ولا يعبرها إلا أصحاب المحلات والعمارات والمنازل الفخمة ممتطين سياراتهم.