الشاعر والبلاغة

وسام عبد الحق العاني | العراق

(الشاعر المطبوع لا يمكن أن يكون ناثراً مطبوعاً) .. ظلت هذه العبارة عصية عندي على الفهم حيناً من الزمن، كنت خلالها متزمتاً بفكرة أن الشاعر المبدع بإمكانه أن يتلمس مواطن الإبداع في الفنون الأخرى بكل يسر وسهولة، معتقداً أن البلوغ في الشعر بلوغ في البلاغة، حتى رأيت كثيراً من فحول الشعر تتهاوى بلاغتهم عند كتابة مقال، أو ارتجال خطبة، أو في معرض حوار إعلامي، يكادون يشحذون المفردة ويتوسلون العبارة، ولن أذكر هنا أسماءً، وأجزم أن الأسماء تتوارد في أذهانكم الآن.

من اللافت أن شيوخ العربية انتبهوا مبكراً لهذه الحالة، ومنهم من سطّرها في كتبه رأياً ثابتاً مدعوماً بالأمثلة، مثل الجاحظ وابن خلدون، وغيرهم كثير ممن خلصوا إلى صعوبة أن يجتمع أكثر من فن في رجل واحد، وربما اختصر (سهل بن هارون) المشهد بعبارته المشهورة: (اللسان البليغ والشعر الجيد، لا يكادان يجتمعان في واحد، وأعسر من ذلك أن تجتمع بلاغة الشعر وبلاغة القلم).

في كتابه (مفهوم الإبداع الفني في الشعر) يقول الدكتور جهاد المجالي: (وباختصار فإن الشخص الذي يبرع في ملكة من الملكات يندر أن يجمع إليها البراعة في ملكة أخرى، سواء أكان ذلك في الأدب أم في غيره من الفنون والمهن)، ثم يسوق ما ذكره ابن خلدون في هذا المجال مما يؤكد وجهة النظر أعلاه: (ومثال ذلك الخيّاطة، إذا أجاد ملكة الخياطة وأحكمها، ورسخت في نفسه، فلا يجيد من بعدها ملكة النجارة أو البناء، إلا أن تكون الأولى لم تستحكم بعد ولم ترسخ صبغتها).

يقول الجاحظ: (قد يكون الرجل له طبع في تأليف الرسائل والخطب والأسجاع، ولا يكون له طبع في قرض بيت شعر، ومثل هذه كثير جداً) ويذكر بعض الأسماء مثل ابن المقفع، فهو مع بلاغة قلمه ولسانه إلا أنه لا يستطيع من الشعر إلا ما لا يذكر مثله. لكننا نعرف أن هناك العديد من الاستثناءات التي تشذ عن قاعدة الجاحظ مثل قس بن ساعدة وكلثوم بن عمرو العتابي وسهل بن هارون الكاتب.

أظنكم تتساءلون معي الآن، هل نجح الشاعر (المبدع) في التغلب على أحادية الطبع الشعري بكتابة الرواية، وهل تمكن من تحقيق الثنائية المستحيلة وجمع فنين في الحلال، وبالتأكيد تتساءلون أيضاً هل نجح الشاعر (المبدع) وضعوا خطين تحت (المبدع) في الكتابة النقدية، أو العكس؟

بصدق، لا أعرف الإجابة .. مهمتي أن أثير الأسئلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى