مناط المزيَّةِ عند عبد القاهر الجرجاني
طاهر العلواني | كاتب مصري
اعلمْ – أسعدَك الله بطاعتِه، ووالى عليك نعمتَه – أنَّ كثيرا من الناس بعِلوا برأي الشيخ الإمام عبد القاهر – رحمه الله – في شأن ما تحصل به المزيّة والفضيلة لكلام على كلام؛ إذ كان في كلامه ما يظهر منه التناقض حتى لا موافقة؛ فإنه في فصول يجعل الفضيلة للمعاني، وليس للفظِ تعلُّقٌ بها، وفي فصولٍ أخرى يجعل الفضيلةَ للألفاظِ، وليس للمعاني فضلُ تعلّقٍ بها. وما قاله الإمام هو الصواب الذي يجب التعويل عليه، وينبغي المصيرُ إليه.
وبيانُ ذلك: أن الألفاظَ التي ليس لها تعلُّقٌ بالبلاغة هي الألفاظُ من حيث هي أجراسٌ صوتيَّةٌ وأوضاعٌ لغويَّةٌ. والتي هي مناطُ المزيَّةِ هي الألفاظُ المؤلَّفةُ ضربًا خاصًّا من التأليف مرتَّبًا على ترتُّبِ المعاني في العقل؛ كقولك: ضربَ زيدٌ عمرًا، ألا ترى أول ما ينبغي أن يعلمه السامعُ أن حدَثًا قد كان، فتشوقُ نفسُه إلى معرفةِ الذي أحدثَه، ومن أجل ذلك كان الفاعل كالجزء من فاعلِه، ثم تشوقُ نفسُه إلى معرفةِ مَن وقعَ عليه الضربُ، فكان تأليفُ الكلام (ضربَ، زيدٌ، عمرًا)، ثم إنَّ في حالٍ أخرى تقصدُ إلى إخبارِه بالفاعلِ؛ كأنَّك تنوّه به، فتقدِّمُ الفاعل؛ فتقول: زيدٌ ضربَ عمرًا، ففي هذا التأليف من التنويه بزيد، وتوكيد الخبر ما ليس في الأول.
وتقول: أكرمتُ زيدًا، لمن تُلقي إليه الكلامَ ابتداء، ثم إن السامعَ ربما استوخم منك هذا الإكرام، من حيث إن زيدا ليس بكفء، فتقول: أكرمت زيدا؛ إنه أهل لذاك، فتطنب معلّلًا هذا الكرم بأن زيدا أهل له؛ لمّا رأه السامع ليس بأهل له.
وتقول: زيدٌ يعطي المال، تقصد به إلى التنويه بزيد، ثم بيان إعطائه، ثم بيان أنّ المُعطى هو المال، وتقول: زيدٌ يعطي، لا تتعرضُ لمفعول؛ من حيث أردتَ إلى أنه يكون منه العطاء، من دون نظر إلى بيان المعطَى ما هو؟ ولا بين المُعطى له من هو؟ وعلى هذا قول البحتري:
شجو أعدائه وغيظُ عداه
أن يرى مبصرٌ، ويسمعَ واعٍ.
فهذا الذي قصد إليه الإمام بأن الفضيلةَ راجعةٌ إلى الألفاظِ، وأما كلامه في المعاني، فإنه أرادَ بالعاني التي لا مزيّة فيها المعانيَ التي قضى الجاحظ بأنها (مطروحة في الطريق) يعرفها جميع الناس؛ ألا ترى العاميّ في زماننا يقول لك: أنت شجاع، كما يقولها لك سحبانُ أو ابن عجلان، وليس لقولهما مزيّة على قوله.
وأما التي بها تحصل الفضيلة، وتكون المزيّة، ويظهر بها نبلُ الكلام وشرفه، فهي الصورةُ التي حصلَ عليها ذلك المعنى، فقولك: أنت شجاع، ليس كقولك: أنت أسد، وكلاهما يختلفان عن قولك: رأيتُ أسدا، وأنت تريد رأيت رجلا شجاعا، وقولك: أنت متردد، ليس كقولك: أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى. وعلى هذا القياسُ في كل ما تقف عليه في كلام الشيخ رحمه الله.
إن مذهبَ الشيخ في البلاغة قائم على أن تنظر في علم البيان، فتدرك فرق ما كان من الكلام حقيقة، وما كان منه مجازا، وأن ما كان حقيقة فإنه تشبيه وتمثيل وكناية، وأن ما كان منه مجازا فاستعارة ومجاز مرسل ومجاز مركب، فإن عرفتها، نظرت في النظم، لتدرك كيف يكون ترتيب الكلام في اللفظ على ترتيب المعاني في العقل، وما يقال وما يُحذف، وما يقدم وما يؤخر، وما يفصل وما يوصل، حتى تجدُك كأنك تترك المعاني تلبسُ ما يليق بها من الألفاظ.
فإن كان كذلك فمذهب الشيخ أن المزيّة كلها في المعاني، وأما الألفاظ فهي للمعاني بمنزلة المعارض للجواري، وإن أردتَ الذي يرفع عنك الشك، ويدفع إلى الإقرار بالذي قلت لك، فإنه يكفيك أن تنظر في آخر فصل في دلائل الإعجاز (الموازنة بين المعنى المتحد، واللفظ المتعدد). والله الهادي إلى سواء السبيل.