رواية المعاناة المركّبة ” كثير من الوجع ” للمغربي يونس البوتكمانتي

أحمد الشيخاوي |شاعر وناقد مغربي

صحيح أن أي ممارسة إبداعية تتسم بالبساطة والسلاسة اللغوية ، مع الحرص على عمق الرسالة ،وحيازتها للمتون التي يغذيها الحس الإنساني ، يكون لها بالغ الأثر في نفسية المتلقي، وأكثر استحواذا على جوارحه على امتداد العملية التواصلية وطيلة طقس التلقي ، المنذور لولادات ثانية للنص، بوصف هذا الفعل الاستقرائي أو التأملي انعكاسا لمرايا إدراكنا المتجاوب مع منظومة ما هو بسيط وموغل في صميم المأساة الإنسانية.

في روايته المعنونة ” كثير من الوجع ” الصادرة سنة 2018، عن دار المها للطباعة والنشر وتوزيع الكتب والترجمة ، والواقعة في 280صفحة، نلفي الكاتب يونس البوتكمانتي ، حققّ بعضا مما رمينا إليه ، في هذا الاستهلال ضمن هذه الورقة التي نحاول من خلالها وضع تجربته الروائية ، داخل دائرة الضوء ، ولو أن عتبة هذا المنجز خانته ، على اعتبار عناوين الكتب ، إنما تمثل نصوصا موازية وضمنية ، يجب مراعاتها ،وانتقاؤها بدقة وعناية ، فأن تكون العتبة جاذبة ، لهو أمر مطلوب ، حتّى لا يتم الجور على المنجز بأكمله مع أنه يحمل من العمق ودوالّ المجتمعي والإنساني ، وفرة وغزارة قد يغفل عنها كثيرون ممن ينخدعون بالعناوين، فيزهدون ، بالتالي في كنز معرفي وجمالي، دون قصد .

من تمّ أجد الروائي وقد بسّط عتبة الولوج إلى عوالم سرديته  هذه ، والمثخنة بجراحات الكائن ،والمغرقة في رصد الأوبئة المجتمعية ، على نحو من الإسراف في النهل من أدقّ تفاصيل اليومي ، والإصغاء إلى نبض الشارع ، وكله صبّ في نجاح العملية التواصلية ، وقاد إلى توأمة حقيقة ما بين النص ومتلقيه.

[ بديعة أحزن مني بكثير . البيت يبدو مهجورا رغم أنه مرّ على زواجنا سبع سنوات . لم نصل بعد إلى سماع بكاء طفل أو طفلين .لم يكتب النجاة بعد لمن يكسر صمت المكان ، ويلطف برود الطقس .لم نصل بعد إلى ما يجعل لعلاقتنا معنى…’ ](1).

إنها سردية تجسّم واقع الأحياء الأموات ، وتغذيها معانيه ، بحيث يبدو أن الذات الساردة ،وهي تمعن في تنويع الأمكنة والشخوص والأحداث ، بحيث تجري في سياقات ذاكراتية ونفسية ، كي تدور دورة كاملة ، تُختزل بعدها في الحضور الرمزي لبطل الرواية الأول ، خالد ولد احمد ، الطفل الذي لا يعرف شيئا ، حسب تعبير السارد ، مما يدلل على خلل وجودي كبير ، الجيل القادم ،معني به ، ونحن بأخطائنا التاريخية ، سواء المقصودة أم لا ، إنما نربي قيامة سوف نحترق بها ، ما لم يتم الإلتفات إلى بؤرها، بكل أمانة ومسؤولية، ومحاولة اجتثاثها من الجذور.

[ كنت أتسلى بإخراج المخاط من أنفي ،وأستمع إلى أنين معدتي التي لم تذق الطعام منذ ساعات ، حين وقف على رأسي رجل بدين نوعا ما ؛ لباسه أنيق ومهاب، حذاؤه ملمّع للدرجة التي أستطيع أن أرى على سطحه الغبار الذي علق بشعري الأشعث . تبدو عليه آثار النعمة ، وهذا ما أعجبني فيه. حين وقف تلك الوقفة ،تذكرت عمي احمد ،الحارس بمركز رعاية الطفولة بالناظور ،نفس الوقفة ،ونفس المشهد ، ونفس الإحساس. أطال الله في عمرك يا عمي احمد . كم أنت رحيم مشفق عطوف .’ رفعت رأسي بثقل لأتفحص محيا الواقف . لم يعد يخيفني شيء، لص ، أو متشرد ، أو شرطي ، أو مغتصِب ، أو نشال ، لا يهم. حدثني بكلمات لم أفهم منها شيئا . ربما كررها مرات عديدة ،لكني لم ألتقط مما كان يتفوه به شيئا.فهم الأمر ، فسألني بإشارة إن كنت أريد أكلا ،أوليس ذاك ما أبغيه ؟ ] (2).

بتأمل هذه السردية نخلص إلى جملة من الأغراض ، والعديد من المفارقات الموجعة ، فهي بمعنى ما تصنع مشهدية للعودة أو الغوص في طفولة بعيد جدا ، كما أنها تحاكم واقعا للطبقية والتمايز ، ضمن خرائطية لتجاوز التابو ،وإنتاج جديد ومغاير للمأساة ، بما يتناغم وروح الحكاية الشفافة المنتصرة لإيقاعات التفاؤل والإيجابية ، والمزيد من النضال والإبداع الحياة والنفسي والمجتمعي ، والاستعصاء على الرؤية الانهزامية.

سردية تنزف بالرسائل العارية ، من جوانية وبرزخية ذاتية ، لتوسل صور الحياة الحاملة لألوان ما ومعاني ما ، قد تبرر حضور الكائن الهشّ والمهمّش والمحاصر بهزائمه وانكساراته ومعاناته المركّبة ،وتبصم هوية وجودية تليق بملائكية صلصاله.

يقول الراوي في كلمة أخيرة :

[ هذه الكلمات كتبتها نصف سنة بعد الخروج من مليلية ، والهروب من كنيسة سينيور خوان فابريغاس .كتبتها في رحاب مسجد قروي عتيق بإحدى دواوير بني ورياغل ، ضواحي بلدة آيت عبد الله . كتبتها وكأني أكتبها في الحين الذي حدثت فيه تقريبا .كتبتها لأحس قدر ما استطعت أني أعيش تلك اللحظة . في الشهور التي كتبتها ، كنت قد تعلمت حروف العربية ،وصرت أكتب بها شيئا ما . وكنت قد حفظت حزبي ” سبح ” و ” عم ” من القرآن] (3).

بهذه الواقعية إذن ، تتم تعرية راهن من الأوبئة المجتمعية ،ويحصل فضح زمن للانتحار النفسي ، بكثير من الثقة التي تجود بها بساطة وبراءة الخلفية ، في تلوين بياضات اللامعنى الذي تولّده حياة البرزخية ،وتفتي به أبجديات الضياع .

هامش :

(1)مقتطف من نص ” إلى الأقمار الثلاثة .. رواية عزيز ” ، صفحة 10.

(2)مقتطف من نص” مليلية / النور ــــ الفصل الثاني “، صفحة269.

(3)مقتطف من نص ” كلمة أخيرة ” ، صفحة276.

*كثير من الوجع (رواية ) ،يونس البوتكمانتي ، إصدارات دار المها للطباعة والنشر وتوزيع الكتب والترجمة ، طبعة 2018.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى