العبقري “د. جمال عيد زايد”..من لم يرحموه حيًّا لا يسعهم طلب الرحمة الآن
عبد الوهاب شعبان | صحفي بجريدة الوفد
الآن، انتصب ليل المدينة الرخوة -وهو لا ينتصف إلا بانتصاب مقيم-، وأُغلقت العيادة، وسيشرق للأبد صبح الاعتيادين العبوس.
لذلك، إذا كنت واحدًا من الراكضين خلف التعازي -المُعلَّبة-، ولم يمسك حزن النهار الصارخ، أنصحك ألا تقرأ تالي السطور..
(1)
ذات ظهيرة شاقة، وقف الفيلسوف سقراط متوحدًا مع فكر تأملي أخّاذ، لديه ما يشغله، دون أن يعكر صفو أحد، طالت الوقفة حتى جنّ مساء مجتمعه الساخر -التعيس-،فاجتمع البعيدين المبعدين عن كل عقل رشيد، فرشوا حصائرهم، وأطلقوا صيحات البلادة الراسخة، وتساءلوا فيما بينهم: هل سيظل هكذا غير عابيء بأحد حتى الصباح؟.. فكان ذلك واقعًا، ظل الفيلسوف يتأمل فكرته، دون أثر لانشغال بعبارات الدهماء الطاعنة في بلادتها.
ماذا بوسع الدهماء غير الثرثرة،وفرش حصائر النميمة المعتقة؟
(2)
-أريدك أن تصدقني الآن، إذا ملت برأسك للوراء، وتأملت، فلم تؤلمك ذاكرتك تجاه فقد الطبيب جمال عيد زايد، فتأكد أنك واحد من هؤلاء.
في كتابه الممتع “العبقرية والجنون” يضع المؤلف “يوسف أسعد” خطوطًا عريضة نحو شعرة تفصل بينهما،وتزدري على مد استقامة المعنى (الاعتياديين) المبعدين عن كل انحياز نبيل، يقول الرجل بأن ثمة اضطراب عقلي ينتج عن العبقرية -وليس العكس-، وذلك نتيجة احتدام صراع بين العبقري، والبيئة التي لا ترحم.
(3)
ذات مساء،وبعد دعوة من الصديق أحمد إسماعيل ساعي لقضاء سهرة بمكتب الطبيب جمال عيد زايد،لم يكن بوسع الحكايات أن تدير ظهرها لانزواء الرجل عن مجتمعه، دون تماس مع عمق المكنون في صدر إنسان يغوص في بحور الأدب، والتلاوة، والنوادر العربية الصاخبة.
وعلى حين سخريته من معاناته، لم يكن بوسعه إلا سبر أغوار التفاصيل وهو يجيب عن سؤال عالق: لماذا لم تطمح إلى التدريس بكلية الطب، وقد فُقت أقرانك، علمًا، وشغفًا بالمهنة، ودواخلها؟..
هناك، وفي ناحية ما اصطحبنا إليه من سيرة الفقر الأولى،وكيف كان يدبر والده سبل المعيشة لم يكن باستطاع الابن النابه إلا العمل لأجل اكتمال شجرة النبوغ المثمرة في بيت أقيمت قواعده على العلم،والتفوق.
يتأذى، ويكتم صراخًا دفينًا يبين في نفثه دخان التبغ الكثيف،يبسط يدًا، ويلملم شتات عباراته، هذا مجتمع فارغ، لا يشغل الناس فيه بحكم تجارب لقاءات “المرضى”-سواء داخل حيز العيادة، أو ما يصادف خارجها – إلا التمظهر الكذوب،وادّعاء أبدي بما لا يتقنون،وطموحات ملخصة في حيل دفاعية تستهدف تعويض عقد النقص الكامنة الآمنة من الزوال.
-كنت أندهش-والحديث للطبيب العبقري- من هؤلاء الساخرين،وقد آلت إلي افتراءاتهم،وهم يتصاغرون أمامي طلبًا للذهاب إلى بيوتهم، وكنت، ولدى تشخيص حالات نادرة لذويهم- لا أرى في عيونهم إلا دهشة السؤال: كيف يكون هذا الطبيب مغيبًا عن وعيه -كما نقول-؟..
(4)..
يمكنك الآن أن تراجع حال من يسعى لزحزحة -أية زحزحة- عن المألوف، ومدى مقاومة هذا المجتمع لفعله،رغم إيمان مسبق بقيمة الشخص المهنية، والعلمية.
وعندئذ، ستصلك أجوبة العدم المعاش يوميًا،وينقلك المعنى إلى آخره،إذا لم أستطع وقف نبوغ جمال عيد زايد- وكل جمال عيد زايد- سأحاصره بشائعات تحيله إلى عزلة، وانزواء،وبعد ذلك،وحين يجمعني لقاء ثنائي-ثلاثي- سأخبره بأنه قيمة علمية نادرة، وأن البلد فعلًا يفتقد حضوره، وعطاءه.
غير أن البليد لا يعلم- وليس بوسعه أن يعلم -أن الصراع هو علة العبقرية.
(5)
-هل تأذيت حين سمعت نبأ وفاة “الطبيب جمال زايد”؟..ما حد الأذى؟..بعد ساعة من تدوينك “معزيًا” بم شعرت بالضبط؟..
هذه أسئلة إجبارية، وبعدها، نتذكر أنا، وأنت سويًا، كيف غاصت الجماهير-التي تقف على أعتاب عيادته منذ بزوغ الصباح، وحتى المساء- في حياة الرجل الشخصية، نقدًا-لا ينبغي لثلة من الفارغين الذين لا منجز لهم-، وتندرًا من أراذل القوم، ومساخرهم على امتداد الأزمان،ولأن ثمة يقين بأن الرجل في حوزة عبقريته المنبثقة عن إحساس مرهف لن يشتبك،فإن أمد اقتحام الخصوصية طال،وتبجح المرجفين أنصاف الاعتيادين بلا زوال.
-ستصدق أن قيمة العبقرية التي ركلها مجتمعك تشويهًا، وتسفيهًا، لا تقدر بثمن، ويصعب تعويضها حين تباعد الأقدار بينك، وبين أسفارك بحثًا عن بديل مقنع.
وعندئذ، وحين تفسح الأقدار طريقًا لنابغة في مجال ما ذات صبح قريب، سأذكرك بأنك ثاني اثنين إذ هما في صراع الجحود، إما صخابًا في غرف النميمة الواسعة باتهامات الجنون،أو اعتياديًا لا تستطيع مقامه فتأنس لدوامة الدهماء،والغوغاء بحثًا عن رزق ملعون.
(6)
-ماذا خسر الناس برحيل الطبيب جمال عيد زايد؟..
خسروا فرصة الصفح، والعفو من رجل كفى الناس شره،وانزوى، فلم ترحمه أظافر النهش النحاسية، وحين آوى إلى عيادته مبدعًا، وممتعًا في تشخيص المرضى بمجرد النظر، باسطًا جناح الرحمة لفقراء المدينة، وبسطائها، نالت ألسنة المشوهين سمعته، وأدق خصوصيات أسرته.
ولأن كينونة العباقرة لا تأنس لمدح الدهماء، ولا تتأسى لذمهم، وإنما تراوح بين فيض من النشاط يتلوه هبوط سوداوي،فإن الرجل لم يطمح في كرسي وثير خلف مكتب شاسع مرصع بالأوراق (ذات الروائح الكريهة)، وحوله نذر من المغيبين،ومع هذا، ونحو شهوة الروتينين للمقعد المخملي كان الطبيب اللامع يرفع شعار العباقرة:”يملؤني الفزع من أن تصيب تفاهات الواقع حياتي المتقدة في أعماقي بالبرود، والتجمد”.
الآن، وقد انقضت الرحلة، واطمأن الطبيب النابغ لخيارات حياته،وورث آخرون مغبة اختياراتهم، ليس للتجربة إلا أن تنبت شجرها(شهادات متواترة عن عبقرية الرجل،ودوره المحوري في إنقاذ أرواح الناس في أوقات الذروة العصيبة)،وهناك على جانب آخر من سينقلب خاسئًا، وهو حسير.
(7)..
تذكر، كلما مرت سيرة جمال عيد زايد، كيف ألقي بأحجار التشهير، التنكيل، والنيل من خصوصية ذاتية؟، وريب ذلك لم يعط بما منحه الله من عبقرية الطب إلا شفاءً، ودواءً عبر السنوات.
ولدى تذكرك، تأكد أن من لم يرحموه حيًا لا يسعهم طلب الرحمة – لأنفسهم- الآن.