من دفتر فتاة تونسية.. موسم النارنج (1)

بقلم: نزهة المثلوثي


مرض أبي ولم يعد قادرا على الخروج إلى العمل فأضحت أيامنا عصيبة وجاء اليوم الذي لم يبق لنا فيه إلا ثمن كراء المسكن سلمته أمي لصاحبة المنزل وأغلقت الباب على وجع وحيرة لتفتحه صباح اليوم الموالي باكرا على أمل رزق بيوم جديد .
خرجت مع أمي من ‘ زنقة البحر ” وانعطفنا يسارا وسرنا في الشارع الكبير حتى وصلنا الممر المفضي إلى حمام سيدي معاوية الذي تنبعث منه رائحة البخور الزكية بعد أن يفتح بابه على الساعةالثانية بعد الزوال وبعد أن يغادره الرجال فتتسابق النسوة إلى داخله مهرولات راكضات لحجز ” مطهرة ” خاصةبكل واحدة فتضع فيها كيسا صغيرا أو محفظة بلاستيكية ضمت ما أحضرته من أشياء وأدوات للاستحمام ثم تعود إلى سدة السقيفة لتنزع ثيابها وثياب صغارها وتضعها في مكانها المرصود ..وترجع إلى المطهرةبعد دلك جسدهاوالاستلقاء ،فتجلس على مقعد وهو عبارة عن حجارة رخامية.بنية مصقولة في شكل اسطواني فتغرف من مطهرتها الماء المنهمر من حنفيتين في حوض صغير يميل لونه الرمادي إلى صفرة داكنة ممسكة إناءها النحاسي من” عروته” الطويلة لتصبه على أجساد صغارها المطلية بالطفل المجفف والذي صبت عليه ماء الزهر والورد بعد أن مزجته بزهر الزنزفور العطر وكانت كل أم تستغرق وقتا طويلا في تخليص شعر ابنتها من الطفل فكانت الأيادي في حركة متواصلة بين التسريح بالفلاية وصب الماء الذي ينساب وسط الحمام في تدفق ويتلالأ فوق الأجساد العارية الساطعة عند اشتعال المصابيح قبيل غروب الشمس .
تجاوزنا ممر الحمام وعبرنا إلى وسط الشارع الرئيسي نحو المقام وهو غرفة كانت أشد اتساعا ورحابة من التي نراها اليوم مكانها والتي تبدو الآن كقفص مهجور ذي قبة خضراء .
كانت معمورة بكل ما حوتها من حركة وزيارة لصاحبة الوجه البشوش الباسم والتي ملأت المكان بدعواتها الطيبة وصوتها العذب المرتفع ببعض الابتهالات والمدائح الخاصة بسيدي معاوية وخصاله وكرمه…
لم يكن في المقام ضريح ولا سناجق ولا أعلام فقد غادره الولي الصالح بعد ان اقام به فترة وجيزة متجها إلى جهة أخرى حسب الروايات المتناقلة
بانت قبالة الباب رفوف مثبتة على الجدار مملوءة هدايا جلبتها الزائرات مع النقود والشموع
استقبلتنا صاحبة المقام بالترحيب وأعطت لأمي شمعة أشعلتها ووضعتها حذو صف من شموع منسجمة منيرة أضاءت الغرفة التي تفتقد إلى نافذة كبيرة تدخل الضوء
كررت أمي دعوتها بالتيسير والفرج والخلاص من الفقر
فتقدمت صاحبة الغرفة إلى سلسلة وفكت عقدة وشاح بإحدى حلقاتها كانت قد وضعته صاحبته عند زيارتها ظنا منها أن حل عقدته وإهدائه ..سيحل مشكلتها ويحقق طلبها ورجاءها ..

وضعت الوشاح على رأس أمي وقالت
_ هالمحرمة بركة سيدي معاوية
_ يعيشك
_اغزر امش طول طول مع الكياس حتى توصل واد سوحيل فوت القنطرة تو تلقى شيشمة هذيك زنقة العين دور معاها واسأل على أمك عويشة مرا وعليها الكلام تو تدلك
_زعمه نلقى عندها خدمة ؟
_ برالها وربي يحلها في وجهك ويجيب لك القسم
كانت النساء وأهالي الأحياء وسط المدينة والأماكن المحيطة بالمقام يحاورون ويأمرون مخاطبتهم بلهجتهم العامية الدارجة بضمير المخاطب (المذكر) فالمخاطب كالمخاطبة لا يتغير تصريف الفعل في صيغة الأمر والطلب وعند الاستفهام والسؤال عن الأحوال …

قبل أن نتجاوز الباب بخطوات قالت لأمي
_ اسمع قول لعويسة بعثتني فاطمة

سرنا مع الشارع مسافة طويلة حتى وصلنا وادي سوحيل عبرنا القنطرة متجهتين إلى زنقة العين .
وصلنا وكانت دار عويشة المسنة على بعد خطوات من العين العمومية طرقت أمي الباب المفتوح فأقبلت إلينا الأم عويشة بخطى حثيثة رغم انحناء ظهرها وما إن رأيناها ختى قالت أمي
_صباح الخير بعثتني فاطمة
_يا مرحبا يا مرحبا زارتنا البركة
_ هيا ادخل ادخل
وبينما كانت ترحب بنا وتدعونا إلى الدخول توقفت شاحنة جنب الزقاق على الشارع الرئيسي ونزل منها رجلان وأقبلا يحملان كيسين كبيرين وضعا ما حملاه أمام الباب وقال أحدهم
وحدك والا مع جيرانك؟
فأجابته
_ مع جيراني
فأدخلا الكيسين إلى السقيفة الواسعة المفروشة بجلود الخرفان مقلوية تفاديا لحرارة الصوف
ورجعا إلى الشاحنة وملآ أركان السقيفة بأكياس النارنج بعد حمولات سريعة

دعت أمي إلى الجلوس بعد أن جرت كيسا نحونا و دخلت وعبرت وسط دارها إلى مطبخها ولم تخرج منه إلا وقد أعدت قهوة صبتها في فناجين فخارية جميلة رسمت عليها أزهار قرنفل ووضعت الفناجين في طبق كبير فيه صحن ملأته حلويات من صنعها ..
وضعت الطبق على مائدة صغيرة حذونا ورجعت بخطاها الصغيرة السريعة فجلبت سكينا وقالت
_ خو قشر وحط في الشكارة وبعد هوني البسكولة أوزن الي قشرتو وقد الوزن قد الأجرة رهو الكيلو بخمسين فرنك فاستفسرت أمي قائلة
_اشيعملو بيها قشور العرنج يا أمي عويشة ؟
_هذيك يشريها المعمل الي يقطر الزهر ويصنع الكونوليا
كان معمل العطور وتقطير الزهور يكلف النسوة بتقشير النارنج خارجه ويتسلم منهم القشور التي يصنع منها العطور .. قبل أن يتحول ذلك العمل الى نشاط ينجزه الرجال داخله بآلات عصرية
كانت النسوة يجتمعن في السقيفة وقد جلبت كل واحدة ما تيسر من شاي وحلويات ومأكولات أعدتها ووضعتها في علب …
و قبل أن تتناول أمي القهوة انهمكت في تقشير النارنجات التي كانت تشبه البرتقالات لكنها أكبر حجما
وأغلظ وأوفر قشرة

وما هي إلا لحظات حتى أقبلت النسوة بعد أن أنهين شؤون بيوتهن وكان العمل في جو خاص من الغناء والزغاريد والمزاح ..وكن يتحدثن دون حرج عن العلاقات الحميمةو ما يحدث في خلوة الأزواج والأصحاب …في تحد لرتابة الحياة السائدة
يتبع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى