النار المقدسة
أ.د. محمد سعيد حسب النبي | أكاديمي مصري
لم يتلق من الدراسة إلا ما يعادل المرحلة الأولية، ولم يُلق أحد بالاً إليه وهو على قيد الحياة، بل إن اسمه ظل شبه مجهول خلال المائة عام التالية لوفاته! ولكن منذ ذلك التاريخ حتى الآن كتبت عنه آلاف الكتب، وملايين الكلمات، وأثار اسمه من التعليقات على أدبه وشخصه أكثر من أي أديب آخر في تاريخ العالم، بل إن آلافاً من الناس يحجون كل عام إلى المكان الذي دفن فيه.
ومن عجائب المفارقات أن الرجل الذي قُدّر له أن يصبح عنواناً لقوة الأدب الإنجليزي ومجده؛ اضطر إلى ترك المدرسة وهو بعدُ في الثالثة عشرة كي يعمل ويعين أباه الفلاح في حلب البقر، ورعاية الماشية، وصنع الزبد، ودبغ الجلود. ثم ضاق بحياة الريف فهاجر إلى العاصمة، حيث اشتغل حارساً للجياد والعربات أمام أبواب المسرح، ثم انتقل إلى داخل المسرح حين احترف التمثيل، فلم تنقض عليه خمس سنوات حتى يحصد شكسبير دخلاً لا بأس به من مهنته الجديدة.
وقد راجت في وقت من الأوقات شائعات، وأُلفت في ذلك عشرات الكتب تزعم أن كاتب مسرحيات شكسبير هو سير “فرانسيس بيكون”، وليس شكسبير، وأن هذا الاسم الأخير ما هو إلا اسم وهمي مستعار اتخذه “بيكون” ليستتر وراءه خجلاً من أن يكتب نبيل مثله في الحب، ويمثل ما يكتبه على المسارح، وبالتالي ذهبت الشائعات إلى أن شكسبير شخص خيالي لم يوجد أصلاً. ولكن عدداً من الباحثين أشاروا بأدلة قاطعة تؤكد صحة نسب المسرحيات والأعمال الأدبية الرائعة إلى “وليم شكسبير” قطب الأدب الإنجليزي وعماده الأول.
إن في قراءة سير العظماء متعة وثقافة وإلهاماً، حيث اقتفاء آثار أبطال هذه الحياة الذين يقرعون أسماع الأجيال في إطار المجد، وتتبع مساراتهم وجهودهم في استكشاف دروب الإبداع وتخطي عقباته. وشكسبير وافر النصيب من ثناء الناس، ومن ثناء الذين لا يثنون على أحد إلا بمقدار، وقلما يثنون بمقدار. ولقد أثنى عليه كثيرون ممن يحملون غصن التحية وميزان الحساب، وممن يحتكمون إلى هوى العاشق وشوق المفتون. إنه واحد من العظماء الذين يرون المجد عقيدة وسنداً وحيداً أكسبهم حق الإيمان به؛ إنها عقيدة لا ينفصم عنها عقل، ولا يفتر معها عمل.
ولا تكون عظمة بغير نار مقدسة، وعبقرية العظيم نار مقدسة لا يقر لها قرار مع اضطرام النار، ولم يزل شكسبير صاحب النار التي نُحس حرّها وضوءها في وجدان من ذاقوا أدبه، ولن تذبل جذوة ناره ما دام موقد كلماته يبث عبقريته صعداً بين السماء والأرض.