أدب

القص بين بلاغة الحذف والحكي المسكون باللحظة الراهنة

قراءة في المجموعة القصصية "غبار الرفوف" للقاص د. مصطفى لطيف عارف

بقلم: عقيل هاشم

 (نادت المضيفة بصوت عال على جميع الركاب ربط الأحزمة, وصلنا حدود العراق. وحمدا لله على سلامتكم, هزني الموقف تركت العراق لا كثر من ثلاثين عاما غربة.وأنا أتذكر الأحداث التي جرت في العراق منذ مغادرتي له, وكيف حال والدي المريض. ووالدتي التي تعاني فراقي وتبكي عليّ في كل حين, نزلت في مطار بغداد أتأمل وجوه الحاضرين.ومناظر الخراب التي حلت بالعراق..).

في مجموعته القصصية (غبار الرفوف) وبواقع (45) قصة قصيرة ,يطرح القاص د.مصطفى العارف, ومن خلال تجربته السردية, كاشفا عن نضجها لديه  أو تكاد، حيث تبدو ملامح النضج ومؤشرات الوعي مبثوثة هنا في تضاعيف هذا الجنس المكثف حكائيا.

والعنوان يحمل معنى أشاريا دالاً على لافتات تهكمية الغارقة في عزلتها. والهروب من سطوة الواقع، والإحساس بعدم الجدوى، التي تشي بعزلتها الأبدية.واللغة في هذه القصص هي ذاتها لغة الواقع المعيش الذي تحياه شرائح اجتماعية متنوعة. فإنها لا تكتفي بعرض مصائرها بل تعري تشوهات هذا الواقع أو تعبر عنه تعبيرا لاذعا دالا، سردها كاتبهابلغة لها منطقها الجمالي الخاص، الذي يغاير في طبيعته وآليات استخدامها الأكاديمي.

يقدم القاص شخوصه متكئا علي إقامة سياق (اجتماعي/ نفسي) يتحرك فيه، هذا السياق كان كفيلا برصد نوازعه علي مستوى الشخصي ,لذا نجد ان من  يهيمن على  السرد هو ضمير المخاطب علي مقدرات الحكي المتراوح بين زمن القص الراهن، والتوظيف الدال بحكي الممزوج بالحنين المشوب بالأسى والخسارات المتكررة.. إنها أحداث مأساوية حدثت وما زالت تحدث, هذه الأحداث وقساوتها تجسدت في أكثر من قصة.

هذه النصوص تتكئ بتنوعاتها (الدرامية)وبشكل يشي بقدرة القاص على التقاط الصور الدقيقة هي من اليوميات ورصدها ثم تدوينها ,تلك النصوص المصنوعة بحرفية ووعي كبيرين، ويشعرنا القاص أننا أمام لافتات إدانة فيها الشخوص المعذبون، المتسمون بعدم القدرة علي الفعل المقاوم، وهنا لا يوقف القاص (مصطفى العارف) بعرض عذابات شخوصه المنسحقون، الذين يعيشون أزمنة الاستلاب فحسب وإنما امتد إلى قساوة حالاتهم النفسية أمام أقدارهم، وهذا ما يتجلى في الحمولات اللغوية في استخدام (بلاغة الحذف)، وترك المتلقي يشارك في إكمالها..(رن هاتفي النقال دكتورة سوزان نعم ابنك في أمان معنا عليك أن تدفعي الجزية والفدية عنه لم استطيع الرد والكلام كان بكائي وصمتي هو الرد عليهم ثم قال عليك دفع مبلغ خمس دفاتر مقابل سلامته وأغلق الهاتف ولم يكن عندي المبلغ المراد مني اضطرتني الظروف إلى بيع بيتي بثمن بخس في منطقة العامرية من أجل إنقاذ حياة ولدي أحمد والتقيت بمجموعة من المجرمين واللصوص سلمت لهم المبلغ كاملا وسلم لي ولدي احمد وأغمي عليها وهي تتحدث عن مأساتها حملتها والزملاء معي إلى القاعة المجاورة وضربتها على خدها أفاقت وأغمي عليها مرة أخرى بعدها أفاقت وهي تصرخ كان ولدي احمد مقطوع الراس واليدين والرجلين..)

    أقول هناك ثمة قدرة على الحكي في القصص عامة  الذي يسلم بعضه إلى بعض، متواشجاً يمتزج الواقعي بالفني، والذي يعري الواقع ويكشف زيفه، تلك صرخة إدانة بإزاء هذا العبث الذي نحياه.., ويبقى القول إن في بعض النصوص يكاد العالم المتخيل محدود، إذ تنتفي قدرة النص على صنع التخييل، لتحل محلها الرغبة في إقامة عالم موازي للعالم الواقعي، يضاهيه ولا يماثله، يقترب منه كثيراً وينفصل عنه عبر لغة مشحونة بدوال متعددة.

   في الختام أقول:إن هذه المجموعة القصصية  أوصلت الرسالة بوضوح، أصابت الهدف بدقة، عرضت الواقع بشجونه عبر مراحله التاريخية المرصودة سرديا،من خلال مشاهد تعرض الواقع المأساوي, هي صرخة احتجاج ربما تحمل في ثناياها الأمل.مشاهد تشارك فيها الفردي والجماعي معا، تصور بكاميرا الكاتب والقاص (مصطفى العارف) حياة شعب بأكمله، يتعرض لمحاولة طمس وجوده. من عبثية حروب لا تريد أن تنتهي، ما تزال تؤثر وتصوغ حاضر ومستقبل هذا الشعب الذي يأبى الاندثار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى