العدالة غائبة!.. والجنائية الدولية في قبضة أمريكا
المحامي إبراهيم شعبان | فلسطين
ساد التفاؤل والفرح والحبور محبي السلام وسيادة القانون وإنفاذه عام 1998 حينما وقع ميثاق روما، حيث تعهد هذا الميثاق بعد إقراره ونفاذه، بأنه سيحاكم كل شخص مهما كانت صفته أو مركزه على أرض هذه الخليقة حتى لو كان رئيس دولة أو وزيرا أو ضابطا أو جنديا، إذا روجت له نفسه بارتكاب جريمة حرب و/أو جريمة ضد الإنسانية و/أو جريمة العدوان على هذا الكون الواسع الشاسع المترامي الأطراف و/أو جريمة الإبادة الجماعية. واعتقد الكثيرون من ملايين الأطفال والنساء والرجال الذين كانوا محلا لفظائع وجرائم هزت ضمير الإنسانية – بسذاجة أو ببلاهة – أن مرحلة جديدة دخلت العدالة الدولية الجنائية. وأن مرحلة الإفلات من وجه المسؤولية الجنائية بحجة الحصانة والإختباء خلف أسوار الدولة الحامية المتغطرسة الجانية المعتدية التي لا تجيز التسليم للجاني، قد ولت وانتهت.
ثم انقضت تلك السنون وتوالت الأحداث الجرمية في فلسطين والعراق وغيرها من دول العالم، سواء عبر القوات الإسرائيلية أو عبر القوات الأمريكية أو غيرها من القوات المعتدية. وبقي الحال على ما هو عليه بعد اكثر من عقدين من الزمان، فلا مجلس الأمن تحرك، ولا المدعي العام (كامبو) تدخل في الأفعال الجرمية لقوات الإحتلال الإسرائيلية، ولم تحل دولة طرف في هذا الميثاق حالة جرمية ولا فعلا جرميا للمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية.
وبعد أن اعترف بفلسطين كدولة وانضمامها لميثاق روما، تفاءلنا مرة أخرى بأن يد العدالة الدولية الجنائية ستطال مجرمي الحرب وضد الإنسانية. وأن الإختصاص العالمي الذي عطلته الدول المترددة في محاكمة مجرمي الحرب، قد استعيض عنه بولاية المحكمة الجنائية الدولية واختصاصها على أشد الجرائم خطورة التي تثير قلق المجتمع الدولي بأسره وليس منطقة خاصة كفلسطين أو العراق أو الصرب أو السودان أو أوغندا.
يبدو أن المدعية السابقة فاطيمة بن سودا قد آثرت في عام 2019 وقبل فتح تحقيق في الجرائم الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس، أن تطلب من المحكمة التمهيدية قرارا لتوضيح النطاق الإقليمي لدولة فلسطين، منعا للجدل واللغط. وبالفعل في بدايات عام 2021 أصدرت المحكمة التمهيدية قرارها بالأغلبية وليس بالإجماع ، وان الولاية الإقليمية لفلسطين تشمل الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس. وبناء عليه قررت المدعية العامة بنسودا التي توشك ولايتها الزمانية أن تنتهي، أن تباشر التحقيق في الجرائم المرتكبة على الأرض الفلسطينية. وبعد تعيين المدعي العام الجديد الإنجليزي كريم خان ليباشر عمله في شهر حزيران/ يونية من عام 2021 ، ومن حينه لم يصدر عن المحكمة الجنائية الدولية أي إجراء جوهري في موضوع التحقيق.
وليس من المبالغة بل من باب الوصف الدقيق، أن المحكمة الجنائية الدولية غدت نافذة الأمل المفتوحة بوجه الشعب الفلسطيني بل وتحميلها فوق ما لا تحتمل خارج اختصاصها وولايتها. فكل عمل أو ضرر يسيء للفلسطينيين يأتي ويقول لك أحدهم أن ارفعوه للمحكمة الجنائية الدولية سواء أكان يدخل في اختصاص المحكمة طبقا للموادالخامسة والسادسة والسابعة والثامنة من ميثاق روما. وما انفكت تصريحات الرسميين وغير الرسميين مناشدة المواطنين الفلسطينيين بالتوجه للعدالة الجنائية الدولية في أي موضوع حتى لو كان مدنيا غير جزائيا، وكأنها الملاذ الذي لا ملاذ غيره .
يجب الإشارة هنا أن هذه المحكمة الجنائية الدولية ليست محكمة خاصة بفلسطين والجرائم الإسرائيلية من قواتها وسياسييها ومستوطنيها فقط، بل هي ذات اختصاص دولي عام شامل. فهي تشمل كل رقاع الأرض في موضوعات محددة على وجه الحصر وهي جرائم الإيادة والعدوان وضد الإنسانية والحرب. اما المواضيع الأخرى كالمنازعات الحدودية واستغلال المياه الدولية فلها محكمة أخرى هي محكمة العدل الدولية وهي قابعة في مدينة لاهاي في هولندا.
ويجب أن نقر أن الإدارة الأمريكية برئاسة ترامب فرضت جزاءات على أعضاء المحكمة الجنائية الدولية من نيابة عامة وقضاء بحجة تعرضها للحنود الإسرائيليين تارة، وللجنود الأمريكيين في أفغانستان تارة أخرى. وعقدت الإدارة الأمريكية اتفاقات مع دول عديدة تلتف فيها على تنفيذ نصوص التسليم الواردة في عهد روما، للأشخاص الفاعلين الأمريكيين مرتكبي الجرائم الدولية. وبقيت المحكمة تلوذ بالصمت المريب للإعتداءات عليها وعلى اختصاصها وعلى قضاتها ورجال نيابتها للأسف الشديد.
فمثلا، بالإضافة لاختصاصها بما يجري في فلسطين، فالمحكمة الجنائية الدولية تختص لتشمل جرائم الجيش الأمريكي في العراق وفي ابو غريب تحديدا بل تشمل جرائم الرئيس الأمريكي بوش وشلته من المحافظين وتابعه توني بلير. وهي تشمل كما قلت كل رقاع الكرة الأرضية. لكن الواقع مرير ومحزن، فرغم عدم انضمام الولايات المتحدة لميثاق روما، إلا أن ملاحقة جنودها وسيا سييها مفقود وغير موجود، بينما ملاحقة العالم الثالث وقيادته متوفرة ومستمرة. ومن هنا صدر أمر من المحكمة الجنائية الدولية القبض على عمر البشير وزمرته في جرائم الجندويل في دارفور بالسودان. وهناك ملفات كثيرة مفتوحة أمام المحكمة لقيادات في أو غندا وأفغانستان وكينيا وليبيا وبوروندي وبنغلادش ومالي والفلبين وفنزويلا وغيرهم، وقلما ترى ملفات لدول أوروبية أو كندا او للولايات المتحدة الأمريكية. ومن هنا يثور التساؤل عن مدى جدية عدالة هذه المحكمة الجنائية، وهل هي المحكمة التي تمناها الضحايا والفلاسفة والعلماء ومحبو الإنسانية ودعوا إليها؟! وهل خلق هذه الأدوات بديل عن النضال لحق تقرير المصير والثورة على الحكام الطغاة المستبدين؟!
الكرة الآن في ملعب المدعي العام السيد كريم خان وبخاصة بعد أن احرجته فطيمة بنسودا بأمرها إجراء تحقيقا في الجرائم الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة وما عليه أن يكمل هذا الإجراء ويستمر فيه ، وبخاصة أن المهل التي منحت للإسرائيليين لاستكمال التحقيق قد انتهت . وأغلب الظن ان إسرائيل لن تسمح لجهاز الإدعاء العام بالقدوم لإسرائيل للتحقيق. وفي ذات الوقت لن تسمح بسفر جنودها أو مواطنيها أو مستوطنيها للمثول امام جهاز النيابة العامة للمحكمة الجنائية الدولية.
حتى لو تقدم كريم خان بلائحة اتهام أمام المحكمة الجنائية ، وقامت الأخيرة بسماع الشهود والبينات لإدانة الجنود الإسرائيليين والمستوطنين. وإذا قام المدانون واستخدموا حقهم في الإستئناف من هذه الأحكام إلى محكمة جنائية أعلى. فلكم ولنا أن نتخيل الفترة الزمنية التي يجب أن تستمر حتى تنتهي بحكم نهائي قضائي مبرم، وأية عدالة سننجز، وأي ردع سيتحقق بعد هذه الفترة الزمنية الطويلة؟! هل ادعو إلى وقف ملاحقة الجنود الإسرائيليين ومستوطنيه ومواطنيه، بالقطع وبالجزم، الجواب بالنفي.
التعويل على المحكمة الجنائية الدولية، كالإعتماد على محكمة العدل الدولية في رأيها الإستشاري في موضوع الجدار، كالتعويل على قرارات مجلس الأمن بدون الفصل السابع، كتوصيات الجمعية العامة للأمم المتحدة، كاجتهادات مجلس حقوق الإنسان. كلها لن تجدي وستيقى عويلا على الأطلال، إن لم ترفدها القوة فالكلب الحي خير من الأسد الميت!!!