أي شاطئ هذا؟.. قصة قصيرة
د. سامي الكيلاني | فلسطين
المدربة تطلب من المتدربين في تمرين الصباح أن يستلقوا على ظهورهم وأن يسترخوا قدر الإمكان. تابع كلماتها بتركيز “تنفس بعمق، تخيل نقطة ضوء تنتقل من إصبع القدم نحو الركبتين وصولاً إلى قمة الرأس، ثم تعود من الرأس إلى إصبع القدم، حيث تكون نقطة الضوء قم بالشدّ والاسترخاء، كل ذلك مع التنفس العميق، شهيق وإبقاء الهواء في الرئة ما استطعت ثم الزفير”. فعل ذلك كمتدرب مجتهد.
اعتبر التمرين فرصة ليخرج مع الزفير كل ما كان يزعجه ويسيطر على تفكيره، كان بحاجة لمثل هذا التمرين، سيحاول من خلاله أن يخرج ما يمكن إخراجه من الضغوط التي تتفاعل داخله نتيجة الغضب والقهر بسبب ما تحمله نشرات الأخبار، التي لا يستطيع التوقف عن سماعها، خاصة عندما يكون خارج الوطن. مرّ وقت خاله طويلاً، أصبح تنفسه منتظماً، شهيق عميق يفتح بركة ماء كبيرة تتساقط فيها كتل سوداء، يرتاح وهو يراها تسقط فتمتصها البركة دون أن يتغير لونها، ثم زفير يعمل كمضخة كبيرة تشفط مياه البركة من قعرها مسببة حوامة كبيرة حتى فراغ البركة، فيفرح وهو يرى الكتل السوداء تدور مع الحوامة وتختفي. ثم شهيق عميق تنفتح معه بركة ماء جديدة تتساقط فيها أجسام سوداء أصغر حجماً من سابقاتها. اندمج عميقاً في التمرين.
أيقظه تصفيق المدرّبة، استمع إليها بانتباه تعبيراً عن شكره لها على اختيار التمرين السابق الذي كان مفعوله مريحاً جداً، كان بوده أن يستمر في التمرين ليكسب مزيداً من الاسترخاء، لكنها كانت تطلب من الجميع إنهاء التمرين والجلوس استعداداً للانتقال إلى تمرين آخر.
انتقلت المدرّبة إلى التمرين الثاني. “اغمض عينيك، سواء بقيت جالساً أو أردت أن تستلقي على ظهرك، تخيّل نفسك على الشاطئ، شاطئ من اختيارك، أضف ما تشاء من عناصر، كالرمل، أمواج، سمك، شمس، نسيم، قوارب أشخاص، أي عناصر مكملة تريدها على الشاطئ، ثم ثبّت الصورة النهائية لتحدث المجموعة عنها”.
حاول أن يتخيل نفسه على شاطئ محدد، لم يستطع، الذاكرة قاحلة، يحاول استحضار صورة شاطئ لكن الصورة لا تأتي، دوائر زرقاء وخضراء تتراقص في الفضاء أمام عينيه المغمضتين، كتلك التي شاهدها في الصباح الباكر على شاشة الحاسوب وهو يستمع للأغنية التي اختارها، لتناسب استبشاره بصباح جميل، مستقبلاً أول خيوط الشمس التي أشرقت من خلف سلسلة الجبال المكسوة بأشجار الصنوبر. الدوائر الملونة تتراقص ثم تنطفئ فجأة وتتحول إلى سحابات رمادية داكنة. جاهد ما وسعه الأمر للإمساك بطرف خيط في الذاكرة، ليحمي الدوائر الملونة على الأقل من أن تتحول إلى سحابات رمادية داكنة. أعاده التمرين الحالي إلى المربع السابق، الفشل في محاولته تخيّل شاطئ ما نزعت منه ما تركته الأغنية الصباحية وما جاء به التمرين السابق من راحة وانفراج. التمرين الحالي يعيده إلى التفكير بالحرمان الذي يعيشه داخل الوطن، الحرمان الذي لا يخلي سبيله حتى عندما يكون خارجه، الحرمان من الشاطئ صار رمز للحرمان الكبير، الفشل في تخيل نفسه على شاطئ فتح فوقه نافذة واسعة صارت تتساقط منها الكرات السوداء التي تخلص منها في التمرين السابق. حاول الفرار منها، استنجد بالذاكرة، ناشدها أن تبحث عن صورة لشاطئ ليصبح شاطئ أمان من هذا المطر الأسود.
انفرجت بوابة الذاكرة عن صورة ساكنة، صورة فوتوغرافية قديمة، شاطئ ما، أي شاطئ هذا؟ لم يميز الشاطئ في الصورة، كانت صورة طفلته والعائلة على منبسط رملي، الطفلة بلباس سباحة وردي اللون تحمل كرة خفيفة من تلك الكرات التي تنفخ بالفم، لا بد أنه شاطئ رملي. حاول أن يوسع الصورة، أن يكبرها ليظهر الشاطئ، صار أسير الرغبة في معرفة أي شاطئ كان ذلك الشاطئ، أخذ يكبّر الصورة عسى يلمح طرف الشاطئ بشكل أوضح، ليستدل من أي علامة على هوية الشاطئ، كبرت الصورة، انتبه إلى أن الكرة في يد الطفلة قد تنفجر لأن حجمها زاد كثيراً، خشي عليها كما كان يخشى من انفجار البالونات حين ينفخها بطلب من الصغيرة، والكرة تكبر بالنفخ ومعرضة للانفجار.
انتبه للمتدربين وقد وقفوا جميعاً بينما ما زال مستلقياً يحاول التمسك بالصورة والتعرف على الشاطئ، ومن ثم تصغيرها قليلاً خوفاً عليها من الانفجار، خوفاً على ضياع الصورة. استسلم لفشل الذاكرة مؤقتاً، مع نية مبيّتة أن يستمر في محاولة التعرف على الشاطئ، صارت مسألة التعرف على الشاطئ تحدياً للذاكرة. انتبه لحديث المدربة وتعليماتها “بعد استراحة الفطور، أما زال بالإمكان أن نسميه فطوراً؟ بعد الاستراحة سأطلب من كل منكم أن يخبرنا عن صورة الشاطئ الذي زاره كاملة وعن العناصر التي اختارها في الصورة”. سأل المدربة: هل هناك تمارين لتنشيط الذاكرة، أريد تثبيت الصورة، لا أريد أن أضيّعها. لم تجبه، لكنها ابتسمت وقالت “سنتحدث عن ذلك في قاعة الطعام أثناء الفطور”.