جدلية التقليد والابتكار
أ.د. محمد سعيد حسب النبي | أكاديمي مصري
يختلف علماء النفس في تحديد أسباب التقليد ومسببات الابتكار؛ فيرى بعضهم أن التقليد وانحسار الابتكار يعود لأسباب عقلية، ويرى آخرون أن الأسباب تربوية. وهؤلاء المؤمنون بالأسباب العقلية يرون أن المُقلد ليس من طبيعته العقلية ولا من أصل خلقته الفطرية أن يكون مبتكراً؛ فهو محدودفي إدراكه الأمور وفهمها والحكم عليها، وهو مقلد لغيره في فهمه، ويقتات على مائدته.
والأمر مردود على هؤلاء؛ فالمقلدون إذا ما توفرت لهم بيئة ثرية من حيث العلم والإبداع تراهم يفوقون غيرهم في مظاهرهم العقلية، وهذا يعني بأن المسألة ليست طبيعة العقل؛ وإنما مسألة تربية مملوءة بأوزار فكر لا يبث روح الإبداع، ومناخ يخنق القدرة على الابتداع.
وفي التاريخ العربي ما يشير إلى حركة عقلية مبتكرة حيث اخترعت فيها العلوم العربية والأفكار الحية؛ فقد كانت هناك عصور يُعد الابتكار طابعها وخاصتها، والبحث فيها يقود إلى العقل الطليق في كل شيء في العالم، واختلف علماء هذه العصور في بحوثهم اختلافاً جريئاً محبوباً؛ يخالف التلميذ فيها شيخه ويجادله ويفحمه.
ثم جاء عصر مخالف تماماً؛ منهجه النقل الذي يحافظ على الجملة واللفظة بل والحرف، فإن انحرفت كلمة عن مسارها فكأنما خرجت على القداسة، ثم صار تعميم لهذا المنهج بشدة وقسوة على كل العلوم، وانغمس الدارسون في الرواية، وعُوِّدوا عادة النقل وتقديس الألفاظ والشيوخ والافتخار بكثرة ما يُروى، وطبعت العلوم كلها بطابع صلب لا يلين.
وتعميم هذا المنهج يحرم الابتكار ، ويجعل التخلص من النقل عسيراً يحتاج إلى جهد كبير للخروج عن مساره، حيث تصير ملكة التقليد متمكنة في النفوس، ويسلم إلى تربية تقيس الطالب بمقدار ما حصّله لا ما هضمه، وبمقدار اطلاعه لا مقدار خلقه وابتداعه، وبمقدار حفظه لا بمقدار نقده، تربية تقدس الكتاب ولا تقدس التجربة، ومعلم يحاسب الطالب على ما أملى ويؤاخذ على ما خلق. إنها ضروب التربية التي تُولّد التقليد وتميت الابتكار، تخلق مقلدين مهرة، ولا تخلق أناسيَّ مبتكرة، تُخرج نسخاً مطبوعة من كتاب، ولا تخلق كتاباً واحداً من مبدع؛ فيصير التعليم آلة تصنع المتشابهات والأمثال.
والتربية الإبداعية تخلق المبتكرين، وتولّد القادة المبدعين، وتُكَوّن الشخصية الناقدة، والخالقة، وتحول مُرَكّب النقص في المقلد إلى مُرَكّب التسامي. إنها تربية تخلق رجالاً خالدين، يبدعون ويواجهون الحياة بقلوب عظيمة وعقول مفتّحة، ويحلون ما يواجهون من مشكلات حلولاً مبتكرة ليست على مثال سابق. وتربية كهذه تستلزم مربياً يترع عقيدة طلابه بقوة عقيدته الإبداعية؛ فيغرس بذلك بذوراً صالحة للإنبات، تفيض ثمارها كأنما تتدفق من جبين الشمس.