المنتفقي علم مغمور في بطون المخطوطات
شيخة الفجرية | كاتبة عُمانية
كانت النقوش هي الناقل المعتمد، لما ورد عن الحضارات العربية القديمة، ثم ما لبث أن بدأ عصر التدوين، دخلت المخطوطات إلى المعترك التوثيقي وتفوقت على تلك النقوش، فنقلت لنا ما سطره التاريخ فيها، مما كان يربط العمانيين بالعراق، والعراقيين بعُمان، وهذا التاريخ سجَّلته النصوص المسمارية، منذ الملك سرجون الأكدي(2371-2316 ق.م)، مؤسس دولة أكد في العصر السومري القديم؛ الذي قال في أحد هذه نصوصه: ” إن سفن مكان وسفن دلمون جعلتها ترسو في ميناء مدينة أكد”.
ثم يقولُ نص سومري آخر: ” ليكن نينتولا(Nintulla) سَيّدا على مجان/ مكان، وعسى أن تجلب إليك مجان النحاس، والديورانت القوي”. ثم جاء العام السادس عشر الهجري(16هـ)، إذ أمر الخليفة عمر بن الخطاب_ رضي الله عنه_ واليه على عُمان، عثمان بن أبي العاص الثقفي، بتشكيل الجيش الإسلامي لفتح أراضي الإمبراطورية الساسانية الفارسية، من قبائل عُمان والبحرين، فاجتمع جيش القبائل العُمانية في جلفار، لينطلق عبر البحر؛ إلى عاصمة الخلافة الإسلامية في العراق.
كان القائد المهلب بن أبي صفرة، وصحار العبدي – صاحب كتاب الأمثال (أول مصنف عربي) _ ضمن هذا الجيش، الذي ضمَّ القادة والعلماء والحكماء والشعراء العمانيين؛ الذي سكنوا تلك البقاع وعمَروها. ومنذ تلك العقود لم ينقطع التبادل الثقافي بين عُمان والعراق، وخاصة البصرة، كان التبادل على هيئة علم وعلماء وشعراء وأدباء إما من عُمان إلى العراق أو من العراق إلى عُمان. ويأتي اسم الشيخ محمد بن صالح المنتفقي منتفق إحدى قرى البصرة في العراق، بأنه قدم إلى عُمان في القرن الحادي عشر للهجرة، وسكن الإحساء، ثم انتقل إلى لنجة _ بندر فارس_، التي قال فيها:
أرى لنجة من بعد سكان بها قفرا
وكاسفة أنوارها مهمها غبرا
ومن لنجة “انتقل إلى بلد الصير وهي رأس الخيمة حاليا فمكث فيها فترة من الزمان والتقى هنالك بتلميذه الفقيه عبد الواحد بن علي الزرافي، ثم انتقل إلى دبا بصحبة تلميذه، ثم انتقل إلى بلدة كمزار وهناك كانت وفاته، إذ له مسجد معروف باسمه”، وكمزار _ إحدى القرى الساحلية المميزة بلغتها الكمزارية الخاصة في محافظة مسندم_. جُمعت قصائده مؤخرًا في ديوان بعنوان: «شاعر الصير»، جمعه وحققه الباحث العُماني عبد الله بن قاسم القاسمي؛ وقد تحدثت المخطوطات الآتية عن قصائد ومسائل المنتفقي:
أ ـ مخطوطة “المواهب والمنن في مناقب الحسن”، للشيخ علوي بن أحمد بن الحسين الحداد، ضَمَّت ثلاث قصائد من أشعار المنتفقي؛ هي: قصيدة “الداعين إلى الهدى الرادعة عن الردى”، يقول في مطلعها:
إذا قلت لم أقصد جدالا ولا مرا
ولم أطلب الدنيا مريدا تكاثرا
///
ولا منحة أبغي ولا سمعة ولا
رياء ومن راءى يرد إلى الورا
///
ولكنني أوتيت قلبا يميل
للنصائح وعظا لي وللغير زاجرا
ـ مرثية الإمام قيد الأرض (سيف بن سلطان)، التي مطلعها:
الرب باق والخلائق فانية
كرهب نفوسهم الفنا أو راضية
///
الله عز وجل يفعل ما يشاء
منه القضايا نافذات ماضية
///
سبحانه لا جور في أحكامه
بل كلها بالعدل فينا جارية
///
إن المقدر كائن والصبر
من شأن الموفق إن دهته الداهية
إلى أن قال:
نور الرعية سورها سمسورها
وسرورها وأبو الجنود النامية
///
مخدومنا سيف بن سلطان الإمام
اليعربي ابن الجدود السامية
وكان المنتفقي قد استعرض في أبياته الرثائية الطويلة، في الإمام قيد الأرض ومنجزاته وحروبه مع البرتغاليين، حتى تحقيق النصر وتحرير الأراضي العمانية، بل وتحرير الخليج وسواحل المحيط الهندي كله من تواجد واحتلال البرتغاليين، ثم ذكر تاريخ وفاة الإمام سيف بن سلطان؛ فقال:
في الليلة الغرا وثالث شهرنا
رمضان غابت شمسه المتلألية
///
ومن السنين ثلاثا مع عشرين
من بعد انقضا ألف تقفوها مائة
قصيدة “يا من تمتّع بالأمل”، ويقول في مطلعها:
يا من تمتّع بالأمل
يا من تجاهل في الجهل
///
إن كنت ذا جهل فًسًلْ
يا من تعاما في العمل
///
أين الجبابرة الأولى؟
واين أرباب العلا؟
///
وأين من حل الغلا؟
وبالبساط يستظل.
ب ـ المخطوطة الثانية هي: كتاب «اتحاف الأعيان في تاريخ بعض عُلماء عُمان» للشيخ سيف بن حمود البطَّاشي.
ج ـ مخطوط بعنوان: “مجموعة قصائد للإمام الشافعي والمنتفقي والخزرجي”
ومؤرخ بتاريخ 1938م، وهي الآن في مكتبة السيد محمد بن أحمد البوسعيدي في مسقط بسلطنة عُمان، وضمَّ هذا المخطوط ثماني قصائد هي: «يا من تمتع بالأمل»، و«ظهر الفساد»، و«القهوة»، و«لنجة»، و«نفقوا النفاق»، ومرثية الإمام قيد الأرض، قصيدة: «سلّم تسلم»، و«طلبت القرار فلم يحلّ لي».
د ـ مخطوطة «الرسالة المنوّرة» للشيخ المنتفقي في الإجابة على أسئلة وردت إليه من البصرة» وهي جوابات على أسئلة توجه بها إليه تلميذه محمد بن إسماعيل العبيدلي، وعثر عليها الباحث العماني عبد الله القاسمي، وضمَّت قصيدة نظمت بتاريخ 23 محرم 1135 هـ الموافق لسنة 1722م، والرسالة بقلم محمد بن حجَّه الصحاري العماني، نقلها من نسخة المؤلف، وأضاف إليها قصيدة طويلة أخرى للمنتفقي، وهاتان القصيدتان بعنوان: «من اعتاض عن رضوان مولاه»، وقصيدة: «سلّم تسلم».
هـ ـ رسالة مطبوعة حققها واعتنى بها الشيخ سلطان بن مبارك الشيباني وأصدرها بين سلسة “أشتات ومؤتلفات”، وهي في صفحتين فقط، بالإضافة إلى أسئلة متفرقة في الكتب والمخطوطات.
وـ جوابات على سؤالات توجَّه بها إليه تلميذه علي بن عثمان البلوشي، وتوجد نسخة من هذه الرسالة في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في الكويت.
وكانت وفاة المنتفقي في القرن الثاني عشر الهجري، في قرية كمزار بمحافظة مسندم، ولما حضرته الوفاة خاطب تلميذه الكبير عبد الواحد الزرافي بقوله:
ستبكيني وأن وصيت أني
إذا ما مت لا يبكيني باكي
///
إذا اعتاصت عبارات وغاضت
لجيج من غموض وارتباكِ
///
تقول غداة لو يحيى فلان
لآذن قفلها بلا انفكاك
فأجابه تلميذه بقوله:
فديتك ليت يومك بعد يومي
وقبل بكاك تبكيني البواكي
///
وشمسك أن يقارنها أفولٌ
فليس بنافع ضوء السماك
ومن أجل تخليد ذكره في محافظة مسندم، فقد أطلق اسمه على مدرسة كمزار (مدرسة محمد بن صالح المنتفقي).
لذلك، نظَّم النادي الثقافي عبر منصاته في وسائل التواصل الاجتماعي محاضرة بعنوان: “المنتفقي عَلَمٌ مغمور في بطون المخطوطات”، قدمها الشيخ فهد السعدي وأدارت المحاضرة: الدكتورة بدرية النبهانية، تحدَّث السعدي عن المشايخ الذين استفاد منهم الشيخ محمد بن صالح المنتفقي، وهم: الشيخ حسن المدني والشيخ عبدالله بن علوي الحداد من حضرموت، ومن تلاميذه الشيخ عبدالواحد بن علي الزرافي والشيخ محمد بن إسماعيل العبيدلي، والشيخ علي بن عثمان البلوشي، وأكد السعدي: بـ”أنَّ المنتفقي علّامة ذو صلات واسعة مع علماء من مختلف البلاد الإسلامية، حيث ارتحل وله علاقات بعلماء من البصرة والإحساء ولنجة من بر فارس واليمن في حضرموت، كما سكن في عمان وله علاقة بعلمائها من ضمنهم الشاعر راشد بن خميس الحبسي، وتوجد أبيات للمنتفقي يتبرم فيها من حال زمانه ومن سوء أخلاق أهله وأرسلها إلى صاحبه الحبسي الذي أجابه بأبيات يواسيه بها”.
وعليه، فإنه من كل ذلك يتبيَّن لنا: أن التواصل بين الشعوب يبني جسور الثقافة ويصنعها، ويحرض على التجويد في الأداء والإنتاج، وأن البيئة التي تحرض العلماء على البذل في البحث والتقصي في شتى العلوم يجب أن تتوفر في كل زمان ومكان، والمنتفقي نموذج أكّد أهمية التواصل الحضاري بين البلدان.
إمارة المنتفق ( 1530 م – 1918 م ) هي دولة كانت تشمل معظم مناطق وقبائل وعشائر جنوب ووسط العراق (معظم مناطق نصف العراق الأسفل)، حضر وبادية، سنة وشيعة، المسلمين وغير المسلمين (ويشمل ذلك اليهود والصابئة والمسيحيين في جنوب العراق). ولقد أسسها عام 1530م حسن بن مانع (جد أسرة آل شبيب التي عرفت لاحقا بـآل السعدون نسبة لحفيده الأمير سعدون بن محمد)، ثم دخلت هذه الدولة بصراع عسكري وسياسي واقتصادي مع الدولة العثمانية على مدى أربعة قرون. ودخلت أيضا في صراع عسكري مع كل الأطراف التي حاولت غزو العراق تاريخيا، فقد دخلت في صراع عسكري مع الدولة الصفوية وصراعات عسكرية مع دول أقليمية أصغر (مثل الدول العربية المتعاقبة في منطقة عربستان ودولة بني خالد والدولة السعودية الأولى والثانية والثالثة ودولة آل رشيد في نجد… وغيرها) وأخيرا سقطت في الحرب العالمية الأولى على يد بريطانيا العظمى بعد أربع سنوات من القتال المباشر، ولقد أسس حكام هذه الدولة (آل شبيب ولاحقا عرفوا بـ آل سعدون) العديد من المدن في العراق مثل سوق الشيوخ والناصرية والشطرة… وغيرها، وانتزعوا العديد من المدن من الدولة العثمانية حسب مصادر تاريخية مثل مدينة البصرة (في عهد الأمير مانع بن شبيب في عام 1694م، والأمير مغامس بن مانع في عام 1705م، والأمير ثويني بن عبد الله في عام 1787م) ومدينة بغداد في عهد الأمير حمود بن ثامر في عام 1813م.