الحسد.. الداء والدواء
محمد أسامة | الولايات المتحدة الأمريكية
اللوحة من أعمال الفنانة الإسبانية ليا روش
لطالما كان الحسد داءًا ينهك القلب، ويمزِّقُ الرُّوح، وينحر الجسد، يورث البغض، ويعمِّرُ الحقد، ويقطع الرحم، فلا يصيب شخصًا إلا صرعه، ولا يُبتلى به قلبٌ إلا قتله، صعبٌ علاجه، عسيرٌ دواؤه، يُعمي البصر ويُذهب العقل، ويجلب البغض بحوزة الجهل، فلا يتبع دربه، ولا يسلك سبيله، إلا دنيئٌ باع دينه وخسر دنياه فكان من الخاسرين.
والحسد بعد يلتهم الإيمان كما تأكل النار الحطب، ويجلب العداوة والبغضاء والغضب،لا يرضاه خُلقًا إلا مريضًا حسد الناس على ما أتاهم الله من فضله، وكره ما أسبغ عليهم من نعمه وفضله، فهو نقيض الإيمان، وثغرةٌ إلى القلب يثب منها الشيطان، فيوردَ صاحبه الجحيم والانهيار، ويحلَّه قهرًا إلى دار المذلَّةِ والبوار.
والحسد ظاهرةٌ تصيب من كان في إيمانه نقص، وفي يقينه بربِّه شك، ومن تمرَّس على كراهية غيره، وتفضيل نفسه، والاعتراض على ما قسم الله له ولمثله، ولو كان الحاسد بصيرًا لأدرك أنَّ نعمَ الله قدرٌ مكتوب، وأمرٌ معلوم، ورزقٌ مقسوم، وأنَّه ما نقص في دنيا العبد أمرٌ إلا عوَّضه الله في آخرته، وآجره على فقده وصبره، وأن من يحسد غيره على نعمةٍ في الدُّنيا وإن طالت لن تدوم، وحتمًا بعد حين ستزول، فالدُّنيا دار فناءٍ لا دارَ بقاء، وهي لا تستحق أن يتوارث منها البشر مظاهر العداء والبغضاء، فالحسد مرضٌ أوَّله ألمٌ، وآخره بغضٌ وندمٌ.
وللحسد على صاحبه عواقب وخيمة، وأضرارٌ جسيمة، تورِث الهم، وتغرس الغمَّ، فيُسوِّدَ قلب الحاسد ما يلقاه من كدر، ويوديَ به كل ما يصيبه من الأرق، فقهره دائمٌ، ومستقبله قاتمٌ، ليكونَ الحاسد دائمًا مهمومًا مغمومًا، خاسئًا مذمومًا، ضعيفًا مخذولًا، لا يشعر النعمة التي بين يديه، ويحسد غيره حتَّى ينقلب على عقبيه، لا يعرف الرضى ولا يدرك الصبر، تتراكم الهموم على قلبه، ويتمكَّن الحزنُ من رُوحه، فتتكدَّرَ نفسه، وتتنغَّصَ عيشته، ويعتكرَ صفوه، ثم تشتعلَ تلك النار التي تأكل جسده، ويلتهم لهيبها روحه، فلا يدرك راحة، ولا يعرف طمأنينة، فإذا زادت نار الحسد في قلبه كان ذلك سبيلًا إلى الوقيعة بين القرناء، والعداوة بين الأصحاب.
ولطالما كان الحسد مفتاحًا للذنوب والآثام، وأوَّل قطرة من المعاصي والأوزار، فكان هو سبب خروج إبليس من الجنة، وحرمانه مما يهبه الله من الرحمة، وكان سببَ أوَّل جريمة على الأرض حينما قتل الأخ أخاه، فأغضب ربَّه وأحزن أباه، ولنا في حسد إخوة يوسف له خيرُ دليل، وفي قصص المنافقين والكافرين زمن النبي ﷺ عبرةٌ لكل لبيب، والعديد من القصص التي فيها جرَّ الحسد كل تلك القسوة على الأخوة والأهل، وحطَّم ما بين الأرحام بلظى الغيره والجهل.
والحاسد لما به لا يستطيع كتمان حسده، ولا إخفاء غيظه، فإن كتمه حينًا ظهر على ملامحه، ولاح على عينيه، وانبرى في فلتات لسانه، وغلب على أفعاله وأقواله، فيذهبَ رشدُه، ويطيشَ عقلُه، فيصير ابتلاءُ غيره فرحًا له، وحزنه سرورًا له، وخسارته مكسبًا يصيبه، وانهزامه نصرًا يحرزه، وفشله بأمر نجاحًا يحقِّقه، فلا يمكن التعامل معه إلا بمداراته والابتعادِ عنه، وتجنُّبِه والنأي عن قربه، فقد يكون حسده نارًا تلتهم الغير فتتسبب في زوال النعمة وضياع الرزق، وانصراف المنة وفقدان الفضل، فالعين حقٌّ كما أخبر رسولُ الله ﷺ. والحاسد كنافخِ الخير يحرق ثياب صاحبه، ويضرُّ برفيقه، فلا خيرَ يُرجى فيه، ولا أمل يتوسَّمه منه، وإن كان للحاسدِ رفيقٌ فهو لا يصوِّبه إذا أخطأ، ولا يعينه إذا أصاب، ولا يحفظ غيبته، ولا يرعى ذمته، يصير كالكلب إن تتركْه يلهث، وإن تحملْ عليه يلهث، فلا سلامة إلا في قطع صلته، ولا سرورَ إلا في النأي عن وجهه، فإنَّ كثرة الذنوب، تميتُ القلوب، وتفضح ما في الصُّدور، وتعمي صاحبها وإن كان بصيرًا.
والحسد داءٌ عقيم، وسقامٌ عظيم، ونارٌ لا يمكن إطفاؤها إلا بماء الإيمان، وسقيا القرآن، والرضى بقضاء الرحمن، فمن أدرك أنَّ الدنيا زائلةٌ بنعيمها، راحلةٌ بكل ما فيها، لما حسد أحد صاحبه على نعمة يومًا ستزول، ومهما طال أمدها لن تدوم، ولعلم أنَّ ما نقص شيءٌ من نعمة الله في موضعٍ إلا تمَّ في آخر، ولا قصر شيء منها إلا كمل في غيره، فيقنع بما في يده، ويحمد الله على نعمته، ثَّم انصرف إلى كسب حلاله بكده، وعمله بقوت يومه، وصار من الرابحين.
ولا علاج لداء الحسد إلا بطلب الآخرة ونعيمها، والسعي إلى الجنة ومنزلتها، فهناك يذهب المال، ويندثر الجاه، ويستوي الغني والفقير، والكبير والصغير، والحاكم والمحكوم، والأمير والمأمور، ولا يبقى بعد انقضاء الأجل، غير ما يقدِّمه الإنسان من صالح العمل، فمن أدرك تلك الحقيقة زهِد في الدنيا فلا يغترُّ بنعيمها، ولا يحسدُ على أمرٍ فيها، ولا يطمع بشيء من حُطامها إلا بما يُقيم أوده، ويحفظ صحَّته ويصلح عيشه، ويديم عبادته ويحفظ طاعته، ولا ينشغل في حياته إلا بإرضاء ربه، وإنارة دربه.
فمن أراد أن يحفظ نفسه من شرِّ الحسد، وينصرف بنفسه عن هذا الغمِّ والكبد، فلينأى عن الحسود، حتَّى يبرأ من كل تلك الهموم، ومن أراد أن يحمي نفسه من دائه، ويتجنَّب آثامه وويلاته، فليجمِّلْ نفسه بالإيمان، ويعمِّرْ رُوحه بالقرآن، ويزيِّنْ قلبه بطاعة الرحمن، فيسهلَ عليه أن يرضى بقضاءِ ربه، ويطمعَ في نعيم آخرتهِ، ويُدركَ أن ما أمامه من حطام الدنيا زائل، وما بيد ربِّه باقي، فيشكرَ الله على ما وهبه إيَّاه، وينظرَ أسفله ولا ينظر أعلاه.