أدب

سقوط

اختارتها مجلة Arablit البريطانية، ومجموعتها القصصية تفاصيل المربع الأسود، ضمن أهم 30 كاتبة عراقية في العصر الحديث، وينصح محررو المجلة بالقراءة لهن

رغد قاسم | قاصة من العراق

-1-

حدقتْ بمللٍ في المدى المكتظ بالمنازل يعلو بعضها الأخر بتناشز واضح بالألوان التي غيرها الغباv، أشكالها متشابهة، لكنها تعلو و تنخفض بلا أتساق مثل معادلة بلا نهاية، رغمَ أنّ النهاية محددة أصلاً.
“ما الذي أفعله هنا؟”
تسائلت، و هي تحاول تذكر الخاطر الذي خطر لها لتصعد لسطح الدار فجأة، خمس سنوات في هذا البيت لمْ تصعد للسطح سوى لتنظيفه مرتين أو ثلاث، عدا هذا فحتى غسيلها تنشرهُ في حبل تثبته لها زوجها بالحديقة الصغيرة، طوال حياتها وهي تكره السلالم؛ الصعود بالذات، لأنّ كل خطوة تُرهقها، تتعب قلبها الضعيف، يُخيل لها أن كل خطوة لأعلى جلسة تعذيب يضطر فيها قلبها الضعيف للركض و الركض دون توقف، رغم أنها بضع خطوات فحسب، هذا شيء لمْ تصارح بهِ أحد، تكره أن تبدو ضعيفة بلا حيلة، رغم أنّها كذلك، مجرد امرأة هزيلة تقف حاسرة الرأس في سطح الدار و هي تلهث كما لو أنها دارت حول الكرة الأرضية دورة كاملة. جلستْ على حجر مركون إلى أحد أضلاع السطح و حاولتْ أن تجذب نفساً عميقاً، كما لو كانتْ تجرُّ مرساة من عمق المحيط، جلستْ لأن من المعيب أن يراها أحد بلا غطاء رأسها كما فكرت، رغم أنها الخامسة و النصف فجراً و لا يوجد عراقي رومانسي تخطر على باله فكرة الصعود للسطح لرؤية الفجر. عادتْ لتسأل نفسها ما الذي تفعله هنا؟

– 2-
“ما الذي أفعله هنا؟”
اسأل نفسي، أنها الثانية بعد منتصف الليل، و أنا أقفُ حاسرة الرأس في منتصف الشارع، البرد يتسلل إلى داخل ثوبي الخفيف كما لو أنّ سرب من النمل يود التهامي، قدماي بلا نعل، أغطس في بركة وحلٍ، و كلاب تنبح في البعيد، و أصوات الأشجار يحركها هواء ثقيل و هي تقاوم الهواء و تصارعه متشبثة بجذورها، أما أنا فأنا فأنا أقف بساقين ضعيفين لا يقويان على حملي، قد أسقط منهكة في أي لحظة، أنا ألهث؛ لماذا؟ ما الذي أفعله هنا؟

-3-
” ما الذي يحدث لي؟”

مرتْ ساعة، أستطيع قراءة الوقت، لكنني لا أستطيع التحكم بجسدي و لا أفهم لِمَ أتجول عارية في المنزل منذ ساعة كاملة لمْ أتوقف بها، و لا أعرف كيف أتوقف، و أنا متعبة؛ متعبة من المسير عارية، متعبة من رغبتي بالتوقف، متعبة من جسدي الذي لا قدرة لي على السيطرة عليه، لكنني أظل أشعر بالآمه مضاعفة و لا تُحتمل.
“ما الذي يحدثُ لي؟”

– 4-

هل أنا ميتة؟
أقف أمام المرآة و لا أرى وجهي، هيئة طينية اللون تظهر في المرآة لكنّها بلا ملامح، أين ملامحي؟ أمدُّ يديّ فلا أستطيعُ رؤيتها، رغم أنني أمدُّ يدي أمامي و أنا متأكدة من ذلك.
هل هذا يعني أني ميتة؟
أُغمضُ عينيّ عسى أن أعود للواقع، و ينتهي هذا الكابوس الغريب، ما أن أغلقُ عيني حتى أسقط!
لكن لِمَ لا ألامس الأرض؟ أنا أسقط منذ ساعات، منذ أيام، منذ سنوات طويلة، أسقط و لا ألمسُ الأرض الأخيرة!

-5-
أسقطُ في تلك الليلة! تلك الليلة الهائلة..
هذهِ هي أنا بلا شك، و هذا هو جسده فوق جسدي، في الغرفة المظلمة، جسدهُ يشع حرارة و جسدي يتعرق من شدة البرد، البرد الذي يجُمد أطرافي كأنني جثة، أتذكرّ هذا اليوم، أتذكرُ هذهِ الليلة.
لِمَ أنا خارج الصورة؟ لِمَ أقف خارج الكتلة اللحمية التي هي جسدي؟
أقترب منه، أنظرُ في وجهه؛ وجهه الذي ينظر إلى الجانب الأيسر حيث أقف بلا صورة، و هو يعتلي صورتي الجسدية التي تدفنُ وجهها بين الوسائد، لا أستطيع أن أرى ملامحه، كما لا يستطيع هو رؤيتي.
أراه يضمحل، و أتخذ أنا وضعه، أقبلُّ كتفيّ و أمر بإصبع يدي الباردة على ظهري، فيرتعشُ جسدي بسعادة كعطشان ذاق عذوبة الماء البارد أخيراً، أعرفُ هذا لأنني أتذكرُ تلك الليلة، و أتذكر ضوئاً لامس روحي في ظلام تلك الليلة، أنسكب في داخلي كنبع نوراني هائل، كانتْ تلك اللحظة الوحيدة في حياتي؛ اللحظة التي يمكن القول أنّها لحظة سعادة حقة، ما أختبرته في تلك الليلة لم أعرفه من قبل، و لنْ أعرفه بعدها مهما بحثت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى