طبَّاخ السم (٢)

شرين خليل | مصر 

اللوحة للفنان جوهانس فيرمير

خرجت مسرعا إلي غرفة أبي لأجده في حالة غريبة جدا كنت أشعر بالذهول والصدمة .أبي ملقي علي الأرض وقد شخصت عيناه .. فاقد الوعي..وعمت الفوضي المكان ..وكأن زلزلا وقع ..قطع زجاج المرايا متناثرة في كل الأرجاء .. والملابس مبعثرة علي الأرض.. هل من المعقول أن يكون أبي من قام بفعل كل هذا ؟ كيف ؟ فأبي قعيد في الفراش ولايستطيع أن يتحرك بدون مساعدة أمي .. ولوهلة إنتابني شعور بالخوف ..ولكني هرعت الى أبي .. حاولت أن أحمله أو أجعله يجلس .. ولكن جسده كان ثقيلا للغاية .. فلم أستطع .. لاحظت أمي ذلك.. وخاطبتني بكل ثبات وهدوء:
– مالك يا سعيد ؟؟ إنت إيدك بترتعش ؟؟
– مش قادر أحركه من مكانه.. ومبيردش علي .. خايف يا أمي ..
– مفيش رجالة بتخاف ياسعيد ..
– خايف علي أبويا ..لازم نطلب له الأسعاف ويروح المستشفي حالا ..
– إسعاف!!! ومستشفي !!! إنت إتجننت ،عاوز الناس تعرف إن أبوك تعبان ورايح مستشفي…الناس تقول إيه ..
– ناس إيه بس !! يا أمي أبويا بيموت ..ولازم نلحقه .. لازم دكتور بسرعة
– عاوزاك تهدى شوية .. لو الناس شافت أبوك بالشكل دا وإحنا شايلينه على المستشفى.. معناها إنه مش عارف يعالج نفسه ،و إنه ضعيف .. معندوش بركات ولا كرامات .. محدش هايثق فيه ولا حتي فيك بعد كدة وهيدورا على حد تاني ..
نظرت إلى أمي مندهشا .. متعجبا من منطقها ..
– للدرجة دي الفلوس عندك أهم من أبويا؟
– يابني إفهم .. إحنا هنجيب له الدكتور هنا ولو لزم الأمر نعمله البيت مستشفي ..لكن يطلع كدة قدام الناس .
إنت تروح تجيب أحسن دكتور من غير ما تتكلم مع حد .. متقولش لحد رايح فين .. ومين اللي جاي معاك فاهم ؟
– فاهم يا أمي ..
أصابتني الدهشة والحيرة من موقف أمي وثباتها .. ونظرتها العجيبة إلى الأمور .. مع إن الموقف كان يتطلب منها إهتمام أكبر بأبي وقلق أكثر ..
أحضرت الطبيب وكشف علي والدي وقال إنه تعرض لصدمة كبيرة كانت نتيجتها حالة إنهيار عصبي شديد ..ولابد من رعاية دقيقة ومتابعة مستمرة لحالته.. ولمح أن ذلك يتطلب تكاليف باهظة ..
وعلي الرغم من يقيني إن والدتي تمتلك من الأموال الكثير ، لكنها أنكرت .. وإدعت ضيق الحال .. وكل ذلك حتي ألبي رغبتها في العمل مكان أبي ..
قررت أن أبحث عن عمل في أي مكان حتي ولو عامل بسيط .. المهم أن يكون العمل حلال ..ذهبت إلي عمي فتحي وطلبت منه أن أساعده في محل العطارة الخاص به .. وكانت المفاجأة أثناء عملي .. دخلت أمي المحل ووجدتني وأنا أنظف وأرتب الأشياء :
– بتعمل أيه ياسعيد ؟
– بشتغل يا أمي …
– بتشتغل في محل أبوك ….
-محل أبويا !!!!!!!!!!؟؟؟؟؟….
-أيوة محل أبوك …إنت فاكر ايه …
-المحل دا فتحناه لعمك فتحي عشان يبيع الحاجات اللي بنطلبها من الناس ،،يعني منه فيه…إنت عارف إن الناس لازم نكتب لهم روشتة .. والروشتة دي بتتصرف من عطارة عمك فتحي اللي هي في الأصل بتاعت أبوك … يا بني متتعبنيش معاك .. إرجع ياسعيد لعقلك .. وريحني ونفذ اللي قولت لك عليه ،،إنت هاتشتغل مكان أبوك ..قوم يا بني الله يهديك .. يلا تعالى معايا ..
أصابتني الصدمة للحظات .. وخرجت مع أمي على مضض وأنا أفكر في أي طريقة تجنبني هذه المهنة التي تجبرني أمي أن أعمل بها ،،دخلت البيت وإذا بي أجد المكان مزدحم جدا ..
وقفت أمي وجذبتني من ملابسي بشدة وقالت :
– شايف الناس قد أيه ؟ عاوز الناس دي تروح لحد غيرنا ..
-أنا مش مصدق يا أمي ،كل الناس دي جايه ليه ،،وإزاي الناس دي مقتنعة بالكلام دا ؟؟
– سعيد ..ما يحسد المال إلا أصحابه ..
-يا أمي أنا مش بحسد أنا بس مستغرب ..
– أفهمك :إحنا إسمنا مسمع في كل مكان .. وبيجي لنا ناس من قريب ومن بعيد .. بيرتاحوا عندنا وبيلاقوا العلاج اللي بيداوي آلامهم ..
-أيوة يا أمي بس أنا معرفش حاجة ومش عارف هتصرف إزاي ؟
– متقلقش ..أنا معاك ووراك ومش هاسيبك .. الحكاية سهلة جدا .. ولو فيه مشاكل صعبة في ناس كبيرة بتساعدنا فيها …
-يا أمي أنا طول عمري بعيد عن الموضوع ده وعمري ماشفت أبويا وهو بيتعامل مع الناس دي .. وبصراحة خايف ؟؟؟
-قولتلك متخافش .. الموضوع بسيط محتاج بس شوية ذكاء .إنت بتصلح بين الناس ..
والناس أنواع :
نوع فاهم إنه دايماً محسود وبيتعمل له أعمال وأي حاجه تحصل له يقول معمولي عمل .. والنوع دا من الناس مش بيفرق بين متعلم وغير متعلم .. والنوع دا تقدر تلفه وتشكله زي ما أنت عاوز …
والنوع الثاني؛ اللي يقولك أنا مش بقتنع بالكلام دا لكن ساعات بحب أجرب .والنوع دا لما يجيلك تقوله لازم تكون مقتنع بالعلاج ومقتنع إنك أصلا مريض عشان تتعالج ودي بتبقي الحجة لما العلاج ميأثرش فيه ، وفي الغالب النوع دا بس بيجي عشان يرضي اللي حواليه أو من قلة الحيلة ..
أما النوع التالت؛ دا اللي هو مؤذي.. وإحنا بنحاول مانتعاملش معاه .. ولو إتعاملنا بنتعامل بحذر .. لكن متقلقش .. النوع دا مش بيجي لنا منه كتير .. مثلا واحد إتجوز علي مراته وتيجي مراته تقول عاوزه أعمله عمل يكره الجديدة ..ساعتها أنا هتصرف وملكش دعوة إنت كل حاجه معمول حسابها .
شوف يا بني من الأخر ؛الناس لها اللي يريحها ودا المطلوب منك .. مجرد تشغيل دماغ وشوية فهلوه..
يا بني معظم الناس اللي بتيجي بتبقي مشاكلهم نفسية وإحنا بقي عندنا الحل لكل المشاكل ..إحنا بنساعد الناس ياسعيد ، يعني مش بنعمل حاجة غلط .. ولازم تقتنع بكدة ..أهم حاجة تكون واثق من نفسك ومش مهزوز في كلامك .. وميكونش كلامك كتير وتحسس اللي قدامك إن حل مشكلته عندك …
– مش عارف يا أمي إنت ليه شايفاني هقدر أعمل اللي بتقوليه دا ؟؟
– إسمعني للآخر يا إبني الموضوع سهل ..عمتك نبوية وعمك فتحي بيقعدوا مع الناس بره وبيعرفوا كل حاجه عنهم .. و قبل ما يجي عليهم الدور هتكون عرفت كل حاجه..وبعدين إحنا بنعرف نوصل لتاريخ العيلة ونعرف مشكلة كل واحد إيه، ونبقى فاهمين هنعالجها إزاي ، الناس كلها مشاكلها تعتبر واحده ،.
ماتقلقش طول ما أنا معاك ..

-طيب أيه حكاية الروشتة اللي قولتي لي عليها دي ؟؟
-لازم نطلب من الناس شوية طلبات عشان يرتاحوا ويقتنعوا .يعني أعشاب وعسل وزيت زيتون .،حجات لو مانفعتش مش هتضر.. يابني كل الناس اللي قعدة ومنتظرانا .. مشاكلها بسيطة وأنا عارفة عنهم كل حاجة وهفهمك تقول أيه لكل واحد بالظبط ..زي ما كنت بعمل مع أبوك ..
– أول واحد هيدخلك دا عنده هوس إنه بيتحسد بيحب يجي لنا من وقت للتاني عشان نرقيه ونعمله تحويطة..هتمسك راسه وترقيه وهيشتري العسل اللي مقري عليه من عطارة أبوك اللي بره ..والتحويطة جاهزة ومكتوبة .وتاني واحد علي الشمال دا عاوز يخطب وجاي يشوف في توافق في الأبراج ولا لا .
– أبراج أيه يا أمي ..
الأبراج ياسعيد ،الأبراج دي علم لوحدها ولها كتب ،يعني ماكنتش بتشوف حظك اليوم ..
-أيوه يا أمي فهمت ..
ماتقلاقش قبل دخول أي واحد في وقت هاتعرف فيه كل حاجه عنه وهاتقول أيه وبالوقت هتلاقي نفسك فهمت كل حاجه ومش محتاج مساعدة من حد .
إجهز ياشيخ سعيد الناس منتظراك ..
سمعت كلام أمي ودخلت مكان أبي وتقمصت الشخصية ..شخصية الحاوي الذي يلعب بالبيضة والحجر .. لم يكن أمامي خيار أخر .. وإتضح لي أن كلام أمي صحيحا وتوقعاتها في شخصيتي وفي مهارتي في إتقان الدور كان أيضا صحيحا.. فمن الواضح أنها تعرفني أكثر مما أعرف نفسي .. وجدت في الناس البساطة وثقتهم الشديدة في كلامي ،كل هذا إكتشفته من أول يوم في الشغل …فعلا أمي كانت علي حق في كل ما أخبرتني به..
بالفعل .. كل من يدخل عندي يخرج سعيداً .. ولديه أمل بأنه سيشفي من مرضه.. وجميع مشاكله ستنتهي ..ويدعوا لي دعوات كثيرة وكأني معي العصا السحرية التي فعلت المعجزات ..وتبينت لي الامور .. من الواضح أنه عملا لا يحتاج لمجهود كبير ،بل يحتاج إلي فن في التعامل وبعض المهارات فالأمر ليس بالصعوبة أو الخطورة التي كنت أتوقعها إلي أن جاء..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى