الفينيقيون وحضارة العقل
توفيق شومان | خبير سياسي ومفكر لبناني
في البداية أود أن أشير إلى إشكاليتين مختصرتين: الأولى: للعلّامة (ول ديورات) إذ يقول: حين نتكلم عن التاريخ والحضارات يعني أننا لا نتكلم عن علم منجز، فألف عام على سبيل المثال لا يمكن أن نختصرها بألف صفحة.
المسألة الثانية ترتبط بمصطلح السامية وهذا المصطلح أول من ابتكره وأشاعه كما يعرف الجميع هو العالم الألماني (أوغست شلوستر) عام 1781، مستندا إلى الإصحاح العاشر من سفر التكوين في التوراة، إذ ذُكِر هذا الاسم فيه للدلالة على مجموعة من الأنساب المنحدرة من سام بن نوح.
في الواقع لا نملك مصطلحا بديلا عن هذا المصطلح، وفيما يعترض بعضهم عليه باعتباره مصطلحا استشراقيا، لكن هذا الاعتراض لايؤسس علميا لمصطلح بديل، يمكن أن يسهل دراسة وقراءة تاريخ الشعوب وحضاراتها.
نحن العرب نعترض كثيرا ولكننا لا نقدم بدائل، هذه مادة لنقاش آخر ومسهب طويل.
مكمن الاعتراض الأساس: بأن العرب الحاليين كقومية وعرق، هم امتداد عضوي للعرب السابقين منذ آلاف السنين…طبعا لا دليل على ذلك.
الدلائل بحسب رأيي المتواضع أن العرب الحاليين هم آخر دورة اجتماعية وحضارية ولغوية للشعوب السامية التي عاشت في هذه المنطقة واختلطت مع غيرها وأخذت من غيرها وأعطت لغيرها.. بهذا المعنى أستبعد صفاء العرق وصفاء اللغة.
كيف؟: لنتذكر هنا على عجالة: قبل الدخول في صلب الموضوع: الفرس ـ اليونان ـ ثم الرومان، كل هذه الشعوب استقرت في منطقتنا مئات السنوات، وحين نقول إنها استقرت في المنطقة مئات السنوات، فلنا أن نتخيل حالات التخالط والتزاوج التي نجمت عن ذلك بين السكان المحليين والشعوب الوافدة أو الشعوب الغازية.
لا شك، هناك اختلاف على الموطن الأول للساميين، لكن الرأي الغالب أن موطنهم في الجزيرة العربية، وهناك رأي آخر لا يقل أهمية ويقول بأن موطن الساميين الأول كان في القرن الأفريقي.
هذا الجدال لن أتوقف عنده، واستشهد بما يقوله العلامة الفرنسي غوستاف لوبون: نحن مضطرون لتوسيع كلمة المعرفة لأننا نعرف بعض المعرفة، وقد يأتي يوم لنعرف أكثر .
هنا: دعونا نأخذ بالرأي الغالب لموطن الساميين الأول، وهو الجزيرة العربية:
1: بعض من هذه السلالة انتقل إلى الحبشة، القرن الفريقي ، لغاية الآن اللغة الأثيوبية ثمة من يعتبرها من أصول سامية مع ملاحظة التطور الذي رافقها وأدى إلى استقرارها الحالي .
2: قسم من هذه السلالة جاء إلى بلاد الرافدين: العراق الحديث، وهم الآكاديون (2500 ق. م) وهم أول سلالة سامية جاءت إلى العراق، واندمجت بالسومريين، ولغة السومريين غير سامية كما يقول العلامة العراقي طه باقر، ويجاريه في ذلك ابن موطنه و زميله في الأبحاث الحضارية فاضل عبد الواحد، إذ يقولان إن اللغة السومرية لغة التصاقية أشبه بلغات بعض أهل منطقة القوقاز في آسيا الوسطى: يعني مثلا: (لوكال) وتعني (ملكا)، وهي نتيجة إدماج مفردتين: (لو) وتعني (رجلا)، و(كال) وتعني (عظيم) ، أي الرجل العظيم، وكذلك: اي كال: اي وتعني بيت، كال وتعني عظيم، ويصبح المعنى الجديد بعد الدمج: البيت العظيم ويعني القصر.
ـ اللغة الآكادية هي أول لغة سامية مكتوبة .
ـ 3: بعض ثالث من هذه السلالة وهم الكنعانيون جاؤوا إلى بلاد الشام، وهناك من يقول إن الكنعانيين جاؤوا من العراق إلى بلاد الشام، لكن لا يتفق المؤرخون على ذلك، ومن بين الذين يخالفون هذا الرأي: ول ديورانت وأرنولد توينبي وغوستاف لوبون وموسكاتي، فيما صموئيل كريمر من أنصار النسب العراقي للحضارات الأولى وخصوصا بما يتعلق بالسومريين.
لكن ثمة وجهة نظرة أخرى جديرة بالتوقف عندها ولا أدري لماذا لا يتم التوقف عندها : وهي نظرية سنخونياتن البيروتي (ألف قبل الميلاد) وهو سبق هيرودوتس الإغريقي الموصوف بأبي التاريخ، وقد ترجم كتابه من الفينيقية إلى اليونانية، فيلون الجبيلي (القرن الأول قبل الميلاد)، وفي هذا الكتاب الذي أكدت حفريات رأس شمرا على الساحل السوري عام 1929 صحة ودقة ما احتوته صفحاته، يورد سنخونياتن أن الفينيقيين هم أهل الساحل الفينيقي ، ولم يذكر أنهم جاؤوا من مكان آخر ، فيما المؤرخون أخذوا عن هيرودوتس قوله بأن أهل فينيقيا قدموا من البحرالأريتري، وليس معروفا إذا قصد هيرودوتس بالبحر الأريتري السواحل العربية أم السواحل الأفريقية، وأما لماذا أخذ المؤرخون من هيرودوتس ولم يأخذوا من سنخونياتن البيروتي كمؤرخ محلي، مع أنه يسبق هيرودوتس بما لا يقل عن 500 سنة، فذلك متروك لجدال ليس آوانه الآن .
على أي حال: نحن أصبحنا بعد هذا السرد أمام مشهدين:
ـ أ: مشهد آكادي ثم كلداني ثم أشوري ثم بابلي في العراق .
ـ ب: مشهد كنعاني ـ آرامي ـ فينيقي في بلاد الشام.
علماء اللغة والحضارات: ول ديورانت ـ ارنولد توينبي ـ غوستاف لو بون ـ إسرائيل ولفنسون ـ كارل بروكلمان ـ الإيطالي موسكاتي ـ طه باقر ـ فاضل عبد الواحد ـ حامد عبد القادر ـ حتى العروبيين منهم مثل محمد جميل بيهم أو عمر فروخ (وأضيف فيليب حتي وانطون سعادة) يجمعون على إن هذه الأصول المتحولة إلى فروع فأصول مستقلة أو شبه مستقلة راكمت كل منها من الأخرى: يعني كما نجد عشتروت عند الفينقيين نجد عشتار في بلاد الرادفدين، وكما نجد أدونيس في بلاد الفينيقيين نجد تموز في بلاد الرافدين .
حول اللغة يقول البلاذري في “فتوح البلدان”: ” اجتمع ثلاثة نفراء من طي ببقة، وهم: مرامر بن مرة وأسلم بن سدرة وعامر بن جدرة، فوضعوا الخط وقاسوا هجاء العربية على هجاء السريانية”.
و حول اللغة أيضا فإن القديس اغسطينوس حين كان يجول في شمالي أفريقيا في القرن الميلادي الرابع كان يتكلم اللغة الفينيقية، أو يستعين بمترجمين يتقنون الفينيقية للتبشير بتعاليمه.
وفي هذا الجانب، لا بد من المرور أيضا، بالفيلسوف الفينيقي فورفوريوس (ت ـ 305) إبن مدينة صور اللبنانية، وهو كاتب سيرة ومترجم أعمال استاذه الفيلسوف أفلوطين (ت ـ 270 م) أحد أهم أركان الفلسفة اليونانية المحدثة، ومن خلال ” تاسوعاء أفلوطين” وكتابات فورفوريوس، يمكن الوقوف على أرضية واسعة لأصول الكتابات الفلسفية المسيحية والإسلامية .
قبل الختام، من الأهمية القصوى القول بحسم وجزم، إن اللهجات الحالية في لبنان وسوريا وفلسطين، يغلب على مفرداتها طابع اللغة السريانية بمفرداتها وأفعالها وتصاريفها وكذلك أغلب أسماء القرى والمدن، وفي العراق يغلب الطابع الآرامي والكلدوـ أشوري ، مع الأخذ بالإعتبار فروق اللهجات وتطورها الذاتي ما بين العراق وبلاد الشام خصوصا بما يتعلق بالآرامية التي عُرفت في بلاد الشام بالسريانية في وقت لاحق.
ختاما، ما يمكن قوله، إن الدورة الحضارية العربية التي انطلقت عجلتها مع الدولة الأموية، ووصلت في عصرها الذهبي مع الدولتين العباسية والأندلسية، هي دورة مضافة على دورات حضارات سامية سابقة لها، أول مبتدؤها كان مع الدورة الحضارية الآكادية في بلاد الرافدين (إذا استبعدنا السومرية عن السامية) ثم تلتها الكلدانية فالأشورية فالبابلية، وفي المقلب الشامي، كان الكنعانيون وفرعهم الفينيقي المبتكر أبجدية وتجارة وحضارة بناء المدن التي قامت على التوسع السلمي الثقافي والتجاري، ولذلك قيل: إن الفينيقيين هم الأمة الوحيدة في التاريخ التي توسعت بالعقل ولم تتوسع بالسيف.