دوار البحر .. دوار المسرح
عبد الرزّاق الربيعي | مسرحي وشاعر وصحافي
بمرور سنة على رحيل الرائد سامي عبدالحميد، عثرت في أوراقي على مقال كتبته عندما زارنا في مسفط للمشاركة في مهرجان المسرح العماني الثالث رئيسا للجنة التحكيم في نوفمبر ٢٠٠٩ أعيد نشره في سنويته الأولى
بشكل مفاجيء داهمنا , أنا والفنان الدكتور سامي عبدالحميد، دوار البحر خلال الرحلة البحرية التي نظمتها اللجنة المنظمة لمهرجان المسرح العماني الثالث ولم تسعفنا الأقراص التي زودنا بها المشرفون قبل إنطلاق الرحلة، كان البحر هادئا والسفينة الصغيرة التي ضمت وجوها عديدة من المشاركين هادئة وتنساب مثل سمكة كبيرة ثقيلة بما حملت على ظهرها، من أناس حالمين، ولأن الجميع يشغلهم هم المسرح لذا كانت الأحاديث تدور حول ضفافه وشجونه وشؤونه.
تحركت من مكاني لأقترب من الدكتور سامي الذي يعد من أعمدة المسرح العراقي وأحد المنظرين له حيث أخرج ومثل عشرات الأعمال المسرحية التي حفرت في ذاكرة المسرح العراقي الى جانب الأعمال الدرامية التلفزيونية والأفلام السينمائية التي شارك بها ممثلا، سألني عن المناطق التي مررنا بها، فناديت الفنان محمد السيابي ليحدثه عن سداب وماجاورها، ثم حاولنا مواصلة أحاديثنا التي بدأناها في الفندق وكانت حول الماضي الجميل للدراما والمسرح العراقي حول “الذئب وعيون المدينة” و”النسر” بدري حسون فريد وغربته في الرباط وغازي الكناني الذئب الجريح في إستراليا، والراحلين سليم البصري وقاسم محمد، وأسماء عديدة متألقة في سماء المسرح العراقي، وتوسع الحديث ليدع الأسماء جانبا ويدخل في الأفكار، ليشمل واقع المسرح العربي اليوم والتيارات الجديدة والصيحات التي ترتفع داعية لموت المؤلف والغاء سلطته على الخشبة فأشار الى كتابه “نحو مسرح حي” وأهداني نسخة منه، بحثت بين فصوله عما يخص حديثنا فوجدت ضالتي في الفصل الخامس حيث يقول” لا غنى للمخرج عن نص المؤلف، ويبقى المؤلف هو المبدع الأول في العملية المسرحية وحتى لو قام المخرج بفرض رؤياه بإحداث تغييرات على النص فإن المؤلف يبقى هو المحفز وهو مصدر الإلهام ويبقى المخرج هو المبدع الثاني”.
تذكرت مداخلة الدكتور عز الدين المدني في الجلسة التطبيقية لعرض فرقة مسرح أوبار “رجل بثياب إمرأة” ودعوته للمخرجين بضرورة عدم المساس بالنص , حينها وكنت معقبا على العرض قلت له: النص ليس كتابا مقدسا والمخرج يبقى سيد العرض وله الكلمة الأخيرة، لكن حين عرضت فرقة مسرح ظفار نصي “ذات صباح معتم” لاحظت خطورة الإجتزاء على جسم النص وهو ما جعل أحد الكتاب الأصدقاء يحكم عليه بالبساطة تأسيسا على ما رأى وليس ما قرأ !!
حيث تبقى للنص هيبته مثلما للبحر الذي تتراقص أمواجه أما ناظري في السفينة هيبة وسحر وجلال.
اقترب مني عبدالعزيز البلوشي عضو اللجنة العليا للمهرجان وسألني عن سبب عدم صعودنا أنا والدكتور سامي الى الطابق العلوي من السفينة؟ أجبته: لقد أصبنا بدوار البحر، سألني ثانية: ألم تركبا البحر من قبل؟ قلت: ركبنا مرات قليلة فبلاد الرافدين اكتفت بدجلة والفرات، ومياههما لاتجلب الدوار لحسن الحظ، عاد صوت السياب:
” البحر أجمل ما يكون
وأنت أبعد ماتكون
والبحر دونك يا عراق “
خلال ذلك كانت القاصة هدى حمد تواصل تدوين حديثا معه حين انتهت مد ناظريه في الجبال المحيطة بالبحر ملاحقا سرب طيور لم تلبث أن اختفت، التفت لي قلب صفحات كتابه “نحو مسرح حي” ولفت نظري الى فقرة تقول “اقترنت ميزة مسرح أي بلد من البلدان بأسماء مؤلفي المسرحيات فالمسرح الأغريقي اقترن بأسخيلوس وسوفوكلس وبوربيدس وأرستوفانيس والمسرح الفرنسي اقترن بكورني وراسين وموليير والمسرح الإنكليزي إقترن بشكسبير ومارلو وبن جونسون والمسرح النرويجي اقترن بإبسن والسويدي بسترندبرغ والروسي بتولستوي وجيكوف والألماني بشيللر وقد إقترنت الحركات والإتجاهات المسرحية هي الأخرى بأسماء المؤلفين فارتبطت الواقعية مثلا بإبسن وارتبطت الرمزية بمترلنغ والتعبيرية بكايزر والطبيعية بزولا والملحمية ببريخت والعبثية بيونسكو وبيكت ومسرح الغضب بجون أوزبورن وهكذا بقي المؤلف في الصدارة وسيبقى كذلك لأنه المؤسس للعملية المسرحية “.
انضم الينا الكاتب عزالدين المدني وكان مؤيدا، قلت لهما: لكن المخرجين أداروا ظهورهم للمؤلف وصاروا يؤلفون ويخرجون ما يؤلفون ليتمتلكوا السلطة الكاملة للتصرف بالنص وبذلك ظلت النصوص حبيسة الأدراج وشيئا فشيئا انصرفوا عن الكتابة للمسرح فتراجع التأليف المسرحي خصوصا بعد رحيل الكبار: الفريد فرج وتوفيق الحكيم وسعدالله ونوس ونعمان عاشور ويوسف إدريس وووووو.
وحين سألته عن مشاريعه فقال: كثيرة، من بينها نص للشاعر جليل صبيح عنوانه: “جسر الجمهورية صديقي” عن نص شعري وجدت به مادة درامية جيدة، عسى أن تتاح لنا فرصة تجسيده على المسرح، عند هذه النقطة من الحديث كانت السفينة قد إقتربت من الميناء وبدأنا نتهيأ للنزول ليتوقف دوار البحر، لكن دوار المسرح وهمومه ظل يرافقنا ونحن نخطو خطواتنا الأولى على اليابسة بعد أربع ساعات أمضيناها على راحة البحر.