تصاريف القدر
أ.د. محمد حسب النبي | أكاديمي مصري
قرأت قصة مثيرة عن صياد أعد نفسه لصيد بعض العصافير؛ فقام بتدريبات جادة على الرماية، وتعلم كيف يصوب بندقيته بمهارة وإتقان، وبالفعل أنجز الصياد عمله كاملاً، وصوب بندقيته على سرب من أسراب عصافير كانت تحوّم حول شجرة، وأطلق عياراً قاصداً إياها، وإذا ببطة كبيرة تسقط فوق رأسه!! بطة من السماء! كيف حدث هذا؟ ومن أين جاءت؟ وكيف أصابتها بندقيته وقد كانت العصافير مقصده؟ ويتجاهل الكاتب أهمية الإجابة عن هذه التساؤلات، مشيراً إلى نواحي أخرى يراها الأهم وهي أن الصياد قد أدى واجبه بجدية، وتدرب على الرماية، والتزم بتعليمات الصيد بمنتهى الدقة، وسعى قدر طاقته، أما ما يحدث بعد ذلك؛ فهذا من عند الله، والذي يسميه بعض الناس حظاً أو صدفة أو أي شيء آخر. إن الهدف الأسمى أن يؤدي الإنسان واجبه بجدية وأمانة وإخلاص، ثم تترك النتائج لمُصرّف القدر.
وقريب من ذلك ما حدث مع شكسبير؛ فعندما همّ بكتابة وصيته، كان مهموماً بمستقبل أسرته من بعده، ولم يذكر شيئاً عن مسرحياته الشعرية، والتي صارت فيما بعد تراثاً أدبياً عالمياً للإنسانية كلها، بينما تحدث شكسبير في وصيته عن بيته في لندن، وبعض متعلقاته الشخصية، ولم يذكر مسرحياته حيث اعتبرها شيئاً غير مهم، وهكذا سقطت على رأس ورثته ثروة من السماء، رغم أن مورّثهم لم يكن قاصداً لذلك.
كذلك الحال مع الأديب الدنماركي هانز كريستيان أندرسن، وهو مؤلف قصص الأطفال العبقري، لقد كتب أندرسن عشرات القصص للأطفال، مع أنه قد عاش حياته كلها وهو يفترض نفسه روائياً وكاتباً مسرحياً، ويوجه كل اهتماماته لمسرحياته ورواياته التي يكتبها للكبار، ومن حين لآخر يكتب قصة للأطفال وينشرها لمجرد كسب الرزق، وقد اعتبر هذه القصص شيئاً غير جاد مقارنة بأعماله الأخرى، فإذا بهذه القصص التي ظنها لا قيمة لها تصنع شهرته العالمية، وإذا بالتاريخ الأدبي يهمل كل أشعاره ورواياته ومسرحياته الموجهة للكبار، ولا يحفظ سوى هذه الأقاصيص التي أصبحت تراثاً، مع أنه اعتبرها مجرد وسيلة لاكتساب الرزق.
لاشك أننا جميعاً نملك أمثلة مماثلة لكل ما سبق، والقضية الأساسية هنا هي التركيز على العمل الجاد والاجتهاد والإخلاص في كل ما نقوم به من أعمال، وأداء الواجب كما ينبغي أن يكون الأداء، والثقة في السماء التي تكسب الثقة في النفس، والتأكد من جدارتها واستحقاقها النجاح والسعادة، والنظر إلى الجانب المشرق من الحياة، واستشعار السلام النفسي المقرون بالرضا بالنتائج. والتي لا تخضع في كثير من الأحيان لقوانين العقل والمنطق؛ وإنما لتصاريف القدر.