أستاذ أنيس إلى إشعار آخر.. قصة قصيرة
بقلم: د. سامي الكيلاني
“إلى أهالي المدينة والمخيمات المجاورة، بأمر من الحاكم العسكري يمنع التجول من الآن وحتى إشعار آخر”.
الجملة الممجوجة نفسها، البغيضة، المنذرة بالشؤم وضيق الخلق، تتردد من مكبرات الصوت المحمولة على سيارات الجيش ومن مكبرات الصوت التي على مآذن المساجد، تتردد في تداخل ضجيجي مزعج حتى لا تفهم من كلماتها شيئاً لولا أنك تحفظها عن ظهر قلب، تعرفها بدون الإصغاء إلى كلماتها، يعرفها جلدك، وتعرفها ملابسك وبيجامتك التي تلبسك أياماً وليال متصلة حتى لا تعود تعرف أتلبسها أم تلبسك أم يلبسكما شيء بغيض اللون والرائحة والملمس. تقف في شرفة البيت وتنظر باتجاه أحياء المدينة التي تظهر شمالاً وجنوباً، الصوت مستمر من كل مئذنة، بدل الأذان الموحد ينطلق المنع الموحد، الحبس الموحد، خراب البيت الموحد، الجوع الموحد، الحرمان الموحد، مقارعة الأولاد الموحدة، …. وكل الموحدات التي تجعل الجميع في الهم شرق أو شرك. وهذا الصدى الذي ينعكس عن الجبلين الشمالي والجنوبي فيحوّم في سماء المدينة غراباً يزعق في الخراب، هذا الصدى الذي يزيد الطين بلاّت من كل الألوان والأجناس.
…. إلى إشعار آخر … إشعار … إشعار … آخر … آخر، المنع إلى إشعار آخر والرفع إلى إشعار آخر. قبل ساعتين كان الصدى يرد “إلى إشعار آخر” أخرى، كانت مفتاحاً ضخماً يفتح قفل الزنزانة الكبيرة التي صارتها المدينة والمخيمات المجاورة، فانطلق الصغير والكبير من أبواب البيوت إلى الشوارع كما تنطلق الطيور الحبيسة عندما تفتح أقفاصها فجأة، الكبار إلى السوق ليزاحموا على أرغفة الخبز وأكياس الخضار نقداً وبعين قوية لمن يحمل الثمن وديناً وبعين كسيرة لمن ينقصه الثمن، وانطلقت السيارات الكبيرة والصغيرة، وبعدها بقليل وصل البائعون من القرى المجاورة ودوابهم محملة بالفقوس واللبن والتين، والصغار ملأوا الشارع، الذي كان مقفراً، نطاً وزعيقاً.
إشعار آخر وإشعار آخر من نوع آخر، تماماً مثل العملات، نفس الأرقام بقيم مختلفة، وأسعار العملات تعلو وتهبط باتجاه واحد هو خراب بيت الفقير، وأنت يا أستاذ أنيس من الفقراء، حتى لو عزيت نفسك بأن الغنى غنى النفس والثقافة والمعرفة فذاك لا يغير من الأمر شيئاً، وأسعار ال “إشعار آخر” هي الأخرى تخرّب البيت والأعصاب، إشعار المنع بثلاثة أيام وهل من مزيد وإشعار الرفع بساعتين على كف عفريت يمكن إلغاؤه لأي سبب، أسعار أل “إشعار آخر” تسير باتجاه واحد: سلب الجميع من حرية مقدسة كان سلبها حراماً، المنع والسجن توأمان يا أستاذ أنيس.
يا ظلام السجن خيم/ إننا نهوى الظلاما/ يا ظلام المنع خيّم/ إننا نهوى الظلاما/ أيها الحراس مهلاً واسمعوا منا الكلاما/ متعونا بهواء/كان منعه حراما/ متعونا بفضاء/ كان خنقه حراما
كنت يا أستاذ أنيس قد قررت أن تقضي فسحة ال “إشعار آخر” الرخيص بطريقة جديدة، المنع أصبح روتيناً، البيت أصبح روتيناً، الظلم أصبح روتيناً، منذ فترة وأنت تنتظر الجديد، تجديد يا رب تجديد، حتى ولو كان تجديداً في طريقة القمع، حتى ولو كان تجديداً في خراب البيوت. قررت أن تقتل الرتابة بطريقة جديدة بالتخلي عن هذه الحرية القصيرة، قلت لزوجتك والأطفال: اذهبوا حيث تشاؤون وأنا سأبقى في البيت. قلت سترى الناس من شرفة البيت، سيمر بعض الأصدقاء، ستدعوهم لشرب القهوة ومراقبة الناس معاً، خاصة وأن التموين جيد، في الرفع السابق وفقت بشراء كل ما تريد وفي هذا الرفع لا حاجة لكم إلا ببعض الكماليات، تستطيع زوجتك إحضارها من البقالات القريبة.
انقضت الفسحة دون أن تشعر، تفاجأت بصوت المنع وبال “إشعار آخر” العالي الثمن، شربت الشربة، أحسست بالخازوق الذي نصبته لنفسك، ثلاثة أيام أخرى بين الجدران وفي سجن البيجاما، لن ينتهي المنع قبل مرور الذكرى الوطنية القادمة، هكذا يفكر الذي يمنع، ما دمت قد بدأت المنع فمدده قدر ما تشاء ليشمل كل المناسبات القريبة، يبدو أنهم يطبقون المثل العربي “إن أطعمت أشبع وإن قتلت أوجع” حتى يثبتوا أننا أبناء عمومة حقاً. تخيلت الذي يمنع جنرالاً كبيراً ضخم الجثة على شاشة التلفزيون كتب تحت صورته بالعبرية والعربية “الجنرال منسق شؤون المنع”، تخيلته يصرح بكل هدوء مصطنع: تقديراً منا لمصالح السكان ولقطع الطريق على الذين يقومون بأعمال الشغب، اتخذنا الإجراءات الوقائية اللازمة مثل منع التجول، إن المحرضين على الشغب هم الذين يتحملون مسؤولية الإضرار بمعيشة سكان المناطق.
ثلاثة أيام يا منسق شؤون المنع!
هل تفهم ماذا تعني بالنسبة لي؟
“…. يمنع التجول من الآن وحتى إشعار آخر”
ارتدت المآذن وسيارات الجيب التي ينطلق الصوت من مكبراتها وجهاً واحداً، وجه منسق شؤون المنع، لم تنتبه لزوجتك وأطفالك القادمين نحو البيت من طرف الشارع، تحول البيت تحت مطارق الصوت والصدى المتبادلة إلى أنبوب مضغوط كأنبوب معجون الأسنان، كل طرقة تضغط عليه فينطلق المعجون متلوياً من الفتحة الضيقة.
مع كل إشعار آخر تستطيل يا أستاذ أنيس، يخرج رأسك من الشرفة. إشعار آخر خرج الكتفان، إشعار آخر خرج الذراعان، إشعار آخر خرج الوسط، إشعار آخر خرجت الركبتان، أصبحت شريطاً رفيعاً طويلاً يتراقص في الهواء أمام شرفة البيت، تفحصت نفسك جيداً، الحمد لله، ما زالت القدمان على أرض الشرفة، مع كل إشعار آخر تصبح أرفع وأطول، تتلوى شمالاً وجنوباً.
تفاجأت عيناك يا أستاذ أنيس بمنسق شؤون المنع، استدرت نحو الخلف محاولاً التراجع إلى الشرفة، لكن القيود كانت أسبق إلى يديك من: إلى الشرفة، سحبتك أياد غليظة إلى سيارة عسكرية، حاولت مقاومتهم لكن قوة السحب كانت تفوق قوتك مرات عديدة.
قاعة مليئة بالعسكريين من كل الأشكال والألوان، دخل القاضي، سألك القاضي عن اسمك، أجبت وأنت في حالة “يا غافل إلك الله”. عدت تفكر: ما الذي يريدونه منك ولماذا سحبوك إلى هنا؟
تحدث القاضي بشيء، ترجمه مترجم يرتدي الملابس العسكرية:
أنت متهم بخرق نظام منع التجول، هل تعترف بالتهمة؟
أجبت: لم أخرق المنع، فأنا …
لم يدعوكتكمل، تحدث القاضي بشيء وانتظر قليلاً، دخل الضابط الذي رأيته في السيارة العسكرية، وقف على منصة خشبية وأتى بحركة فهمتها يا أستاذ أنيس على أنها قسم، تذكرت المحاكم والقضاء، قلت في نفسك “لا بد أنه يقول: أقسم بالله العظيم أن أقول الحق كل الحق ولا شيء غير الحق”، انفرجت أساريرك، سيزول سوء الفهم الحاصل وستعود إلى بيتك، فهذا هو الحق كل الحق ولا شيء غير الحق.
تحدث الضابط، ترجم المترجم: قبضنا على المتهم خارج بيته أثناء منع التجول.
نزل الضابط عن المنصة، نهض من الجهة المقابلة ضابط آخر، تحدث حديثاً أطول من حديث سابقه، ترجم المترجم: يطالب الادعاء بحبس المتهم شهراً حبساً فعلياً، وثلاثة أشهر مع وقف التنفيذ، وغرامة ألف شيكل.
قلت للمترجم أنكتريد الحديث، نقل رغبتك للقاضي، سمح لك القاضي بالحديث بشرط الإيجاز، قلت: كنت أقف في شرفتي، خرج رأسي من الشرفة تحت ضغط الصوت والصدى، لم أغادر الشرفة.
تحدث القاضي، ترجم المترجم: الإنسان حيث رأسه لا حيث قدميه، الإنسان هو العقل، هل تعترض على إرادة الخالق؟
طار عقلك.
نهض القاضي، انسحب العسكريون الكبار، سحبك جندي ووضع القيود في يديك عند باب القاعة. تمنيت لو أنهم أمهلوك لتقول كلمة أخيرة، “قبل أن تجروني إلى هنا، كنت أفكر بابن الجيران، أكمل السادسة عشرة في السجن، كنت أفكر في أيام المنع الثلاثة القادمة عندما مرّ من أمامي، تحمل السجن وخرج قوياً، حسدته على قوته، ها أنتم تتيحون لي فرصة التجريب”.
دفعك الجندي في سيارة عسكرية، كان هناك عدد من الشباب، استقبلك أحدهم “أهلاً أستاذ أنيس”، تعرفت عليه، إنه أحد طلاّبك، عرفت منه أنكم تنتظرون النقل إلى السجن.