في ظل الموت والصمت
بقلم: يونس العموري
في ظل الموت، وفي ظل التقدم نحو الخلف، وفي ظل إرادة القابعين بالعلب الإسمنتية، وفي اللحظة التاريخية الفاصلة ما بين الحياة والخلود، وفي ظل الاستكانة والخنوع والخضوع وجعجعة الكلام، لا بد من الصراخ الآن، ولا بد من العويل، ولا بد من محاولة رسم لوحة الواقع الذي نحيا، ولا بد من مواجهة الحقيقة بمواجهة الذات، ولا بد أن نعي أن ثمة انكسارا بأنفسنا قد حدث. وأن في النفس الكثير من التناقض، وثمة ضجيجا مشاغبا يغزو الوجدان، فما بين ممارسة القتل على الأشهاد في “باستيلات يهوذا”، وتشويه ابتسامة طفل يحاول أن يعبث بسنين عمره الشقي، وما بين القمع بميادين المدن المحتلة من قبل من يلبسون بزات العسكر الوطني، وما بين النوم في بحر التنظيرات بالوطن المسلوب، يكمن تمزق الذات والهوية، تلك الهوية التي أصبحت مشرذمة منقسمة ما بين الجغرافيا وقوانينها والتي لطالما اعتبرناها واحدة موحدة.
وفي ظل الموت اليومي بممارسة القتل بكل اشكاله، هذا الموت الذي اضحى مجرد من الفعل والفعل المضاد، مجرد قتل لفتى كان يحلم بعرسه، كان يعد العدة ليعتلي صهوة الحب في أيام خريفية، يحتضن من خلالها عشقه وشقاوة عمره..
لنا أحلامنا وصراخنا وآمالنا التي كنا نعتقد أنها ممزوجة بتلك المعاناة من صلف الاحتلال وآلة التدمير والقتل، إلا أن المشهد هذه المرة مختلف، ويأتي اختلافه باختلاف وقائع البلد في ظل اللحظة الراهنة بعنوانها الأبرز معارك بأكثر من عنوان، فهناك معركة الأمعاء الخاوية لأسرى الحرية والانعتاق من عبودية السجان، حيث مجريات الفعل العدواني على الأسرى، وثمة معاك لا تجد لذاتها عناوين تكاد توصف بالعبثية حينما يحاول الفارس ان يتصدى لمن يحاول ان يسلبه الحياة، والحياة هنا فعل مجازي لمن يحيا ببطن الجبل …
وفي أتون هذه المواجهة نلاحظ الكيفية التي تعاملت وتتعامل معه جماهيرنا الفلسطينية كما تتعامل جماهير أي عاصمة عربية أو أوروبية بالمساندة. واعتقد أن هذا ما أذهل الكل، بل إنه قد شكل صدمة لنا بالأساس، فمن غير المعقول أن تتظاهر رام الله بشكل سلمي من خلال مسيرات الشموع وتسير تظاهرات الأطفال وتنظيم فعاليات غنائية. فهذا غير منوط بجماهير الأرض المحتلة، ومن غير المعقول أن تكون المهرجانات الخطابية سيدة الموقف هنا.
أعتقد أن ثمة هزيمة قد لحقت بنا هنا، هزيمة صارخة أمام الدم وإزهاق الأرواح، وثمة خجلا يتبلور الآن بذواتنا من مواجهة اللحظة. التحدي يتسلل الى ثنايانا والهراوة سيدة الموقف، والسؤال يتبلور ويتضح أكثر تحت المجهر.
فما العمل يا سادة القول البليغ في ظل اختطاف جماهيرنا وإقناعها بإمكانية رغد العيش تحت جنح التسليم بواقع الأمر والاستسلام لحيثيات معادلة العقلنة والتعقل؟ أعلم وأعرف أننا نعيش لحظة تاريخية فيها الكثير من مشاهد التناقض، حيث أنجز الانقسام إنجازاته وفعل مفاعيله، فقد أصبح للنضال وجهة نظر أخرى، وللكفاح أيضا تعريف مختلف عن ذاك المرتبط بتاريخ المسيرة التحررية، وصرنا مختلفين حتى على تعريف فعل المقاومة وأحقيتها برد العدوان بكل أشكاله.
ولأول مرة صرنا نراقب المشهد وكأننا نعيش بغير فلسطين المحتلة، وكأننا بواحة رام الله المحررة، نحيا بكنف الأمن والأمان وتحقيق أهدافنا على الأقل الإنسانية. والكل يعلم ويعرف أن الحد الأدنى من ضرورات الحياة الانسانية غير متوافق أو متوافر وتلك المسماة حياة في المدن المحتلة.
هو الصمت من جديد يغزونا وكأن عدواه قد أصابتنا بمقتل، وأصبحنا نلوذ بالفرار حتى من أنفسنا حينما يغزونا الخجل، ولا مبرر لنا مهما حاولنا التفسير، وبصرف النظر عن القمع أو ما يسمى بالمصلحة الوطنية العليا…
نصرخ من وجع اللحظة وكيف تحولنا إلى أداة مهجنة ومدجنة كما يُراد لنا أن نكون، نستقبل أنباء القتل والموت ، وربما نشفق على أنفسنا من تلك المشاهد الآتية إلينا عبر الأثير.
وهو السؤال الذي يقض مضاجعنا ليل نهار، هل نحن بالفعل بمستوى الحدث؟ أم هو العجز؟ أم صار لنا تعريفات ومفاهيم مختلفة؟ وهنا لا أستثني أحدا، جماهير وقادة ونخبا ثقافية وحتى ممن يمتشقون اليوم بنادق الكفاح في الأزقة والحواري.
صرخة مدوية تكاد تهز أركان كل فلسطين المحتلة اليوم. أين نحن من كل هذا؟ أين أنتم من كل هذا؟ بل دعوني أقول أين حماس رافعة شعار المقاومة نهجا وخيارا؟ أين ادبيات اليسار واقتناص اللحظة الجماهيرية وتثوير الفعل وتطويره؟ أين تراكمات التاريخ والبناء عليه؟ أين حركة فتح بكل تراثها مما يجري؟ لا يكفي القول إن الوقائع مختلفة اليوم عن السابق، ولا يكفي القول إن الحصار وتقطيع الأوصال قد حال دون أن نأخذ مواقعنا في ملحمة الدم الأسطورية.
فإذا كان ثمة اختلاف فيما مضى حول تفسير فعل الانقسام، فقد أصبح الانقسام واضح المعالم اليوم في هذا الوطن، بعد أن أصبح للانقسام أشكال أخرى يتمثل بانفصال الجماهير عن قضاياها، وانقسام القضايا عن بعضها البعض، وإقصاء المقاومة بالتصدي لمتطلبات المرحلة وتحدياتها.
لأول مرة لا تلتحم جماهير الأرض المحتلة مع قضاياها بالشكل العملي، وقضية الأسرى على سبيل المثال كانت أولوية أولويات في المواجهات الميدانية مع الاحتلال وإسناد مقاومة الحركة الأسيرة التي طالما كنا نسميها خط الدفاع الأول ورأس حربة المقاومة. ولأول مرة يصبح الميدان متشرذما ومشتتا وغير متوافق.. لأول معركة تكون المواجهة هكذا، قمع هنا وقمع هناك وضرب أمام شاشات التلفزة بكل ميادين التعبير عن الذات.
أعذر نفسي وسأسمح لذاتي أن أواجه الذات بالحقيقة المرة، فثمة هزيمة هنا تتضح معالمها أيها السادة الكرام في كل الأماكن وعلى مختلف المستويات، هزيمة أصبحت مكرسة بكل ثنايا يومياتنا، وثقافة المساندة كانت فارغة أيضا من مضامينها ومن معانيها ومن الحد الأدنى من الفعل وردة الفعل.
يا سادتي في كل مكان، وفي شوارع وطن الممزقة أوصاله، لا شك أن صراخ فقراء الوطن المسلوب منكم وبكم قد بات يزعجكم، وأنتم تنعمون بالعيش في جنان روابيه، فهل لكم أن تسمعوا هذا البيان؟