مركزيةُ الآخر و هامشيةُ الذَّات في ديوان (الفانوس) للشاعر قيس لفته مراد

أ.د مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي

  ينبغي التَّسليم أولاً أنَّهُ لا توجد ذات من غير آخر, و لا وجود للآخر من غير الذَّات المشاركة له, إلَّا أنَّه في بعض الأحيان تتسع دائرةُ حضور الآخر لتحتلَّ نسبةً مركزيةً لدى الذات, وأكثر ما يكون ذلك حينَ يسعى الآخر إلى تلبية حاجات الذات العاطفية والتواؤم معها ؛ لذلك فهو يلجأ إلى أساليبٍ معينةٍ يستطيع أن يقهر بها انفصالَهُ وتباعدَهُ عن الذَّات إذ  يواجه الإنسان في كل العصور والثَّقافات بحل المشكلة الوحيدة عينها مشكلة كيفية قهر الانفصال كيفية تحقيق الوحدة , كيفية تجاوز الإنسان لحياته الفردية[1], ولذا سنتعرَّف إلى تمركُّز الآخَر من خلال ديوان الفانوس للشاعر قيس لفته مراد, التي يذكر في بداية الديوان, ويكرر نفس النص نهاية الديوان أيضا , فنراه يقول  :

لحظة أيها الردى

لحظة يا خدر الليل

كي أتم سطوري

لو يد تفتح النوافذ فوقي

وتضيء الشموع حول سريري

الفانوس [2]

  إنَّ نصَّ الحداثة الشِّعري يُولَدُ عادةً من قطبَين متفاعلَين ومتصارعَين هما : الذات والعالَم الآخر , فالنَّص الحداثي لا يبدأ في العُزْلة أو الفراغ , بل في نطاقٍ من العلاقات التي تُرسَمُ بين الشَّاعر والعالَم أو الواقع بتعارُض مفرداتِهِ وتعقُّد علاقاته[3], إذ من الطبيعي ألَّا توجد في هذا الكون ذات ” متوحِّدة “, بمعنى أنَّها تُمارس وجودَها بمعزل عن الآخرين وعن الأشياء . رُبَّمَا تتخذ تلك الذات موقف ” الرفض ” من العالَم , ولكنَّها لا تستطيع أن تتخذ موقف ” النفي ” منه[4], فنراه يقول :

كان ملقى على الطريق الكئيب

وبعينيه شوق كل غريب

كان مثلي

يشكو ضياع الدروب

ويعاني من الهوان الامرا

كل شيء به تهرا 00 تهرا

زال عنه طلاؤه فتعرى

بعدان كان بهجة للعيون

ومضيئا في حالكات الدجون

فهو الآن في الطريق استقرا

فوق كوم من النفايات بالي

وبعينيه من طيوف الليالي

إلف ذكرى من الحياة[5]

لقد اختار الشاعر قيس لفته مراد عنوان ( الفانوس) المتهرئ والبالي العتيق معادلا مطابقا لشخصه , موضحا حالة التشابه الكائنة بينهما , في الزمن الماضي والحاضر , ذلك الماضي البهيج وهذا الحاضر الكئيب , ثم يعود الشاعر ليلقي الضوء من خلال فانوسه أو بالأحرى من خلال شخصه , على أحداث وظواهر ومواقف عديدة ومتنوعة , تعدد وتنوع خبرته في الحياة التي خاض غمارها , فتبدو وكأنها حصيلة هذه الخبرة بإكمالها [6] , ولا تبرز الذَّات في النَّص الشِّعري نسقاً منعزلِاً عن الآخر كما نلحظها في أثناء مناجاةِ الشاعر لنفسِهِ وغنائيتِهِ الدَّاخلية ؛ إذ لا يُمكن النظر إلى تجلِّي الذات متجرِّدةً عن الآخر , فإنَّ من المُحال أن يبرز الآخر في النَّص الشِّعري بعيداً عن الذات ؛ لأنَّ الذات تُشكِّل المحورَ الرئيس في العلاقة الثنائية بينها وبين الآخر لتتمظهر في النَّص من قريبٍ أو بعيدٍ فهي التي شكَّلت هذا الآخَر بل هي التي خلقتهُ في النَّص , وأقامت علاقتَهُ مع غيره([7]) , وأنَّ الوعي الوجداني بالذات لا يتم بطريقةٍ ذاتيةٍ , كما لا يتم بناؤها وتطويرها إلَّا من خلال ” الآخر ” بإدراكه والوعي به , وتفسير دوره , والصراع المستمر معه , سواء أكان ذلك ” الآخر ” حقيقةً أم خيالاً , ومهما كان بعيداً أو قريباً([8]), فنراه يقول :

كل شيء وأنت فيه وضوح

كل شيء وأنت فيه ضباب

أن تجليت فالوجود جلاء

أو تواريت فالوجود حجاب

أترى أنت واحة؟

أم سراب ؟ [9]

ويضيع الشاعر بين زحمتي اليقين والشك , بين الإله الواقعي الشاخص حيال الجميع ,وبين الإله المثالي المتواري عن الكل , وباندفاعه مباغته وقوية ينطلق الشاعر قيس لفته مراد  من هذا الزحام , ليختار زحمته الخاصة المتمثلة بالشك , فلإله هو عطاء , وهذا العطاء هو من صنعه , حيث كلما مد يده اليه , فلا يفلح بغير الخيبة والجدب[10] , إنَّ ثمَّةَ أواصرَ متجذِّرةً تجمع بين الذات والآخر , وتَجلي حقيقة كلٍّ منهما , فالموازنة بينهما تُصبِح بمنزلة مرآةٍ قد تكون أداةً وسبيلاً للتعارف والتجاوز , فالآخر طريقٌ إلى الوعي بالذات بقدر ما يُوقِظُ الذات على حقيقتها , ونحن حينَ ننظر إلى الآخر نرى فيه الجانب المغاير والمختلف , ولذلك قد ننكفئ إلى ذواتنا فنحتمي بخصوصيتنا , وتعترينا حالةٌ من النرجسية أو نعود إلى نرجسيتنا الأصلية حينَ تكون العلاقة بالآخر علاقة تحدٍّ ونفيٍ , فالنظر إلى الآخر إنَّما هو اختراقٌ للذات ؛ إذ إنَّ الآخر قد يمثل الجدِّية , فيبهرنا بغيريتِهِ , وتجذبنا حقيقتُهُ , ويدفعنا إلى التماهي معه , ولذلك فإنَّ الموازنة معه قد تُفضِي إلى التجاوز ومن ثَمَّ إلى التعارف والائتلاف([11]), فنراه يقول :

عاش في كهفه الخرافي عمرا

وانتهى أمس سجنه الموصود

فك ختم مطلسم مرصود

وتلاشى سحر

وحلت قيود [12]

   إنَّ تضخُّمَ الذات وسعيها إلى نفي الآخر, غدت من السمات المترسِّخة في الخطاب الشِّعري, ومنه تسرَبت إلى الخطابات الأُخَر , ومن ثَمَّ أصبحت نموذجاً سلوكيَّاً ثقافياً يُعاد إنتاجه؛ لكونها قيمةً نسقيةً منغرسة في الوجدان الثقافي([13]), وهي ما تسبَّبت في إحداث انقسامٍ بين الذات والآخر في الميدان الشعري الذي يؤكِّد على تلازُم الذات بالآخر في إشارةٍ إلى عدم تمكُّن الذات من تقوقُعِها على نفسِها واحتفالها بنرجسيتها وهو ما يماثل رأيَ هيغل الذي يُشير إلى أنَّ الفرد يكتشف ” الأنا ” الخاصة به ليس عن طريق الاستبطان, بل عن طريق الآخرين في سياق عملية الاحتكاك والنشاط منتقِّلاً بذلك من الخاص إلى العام[14]), إذن ثمَّةَ جدل قائم بين الأنا وذاتها من جهةٍ , وبينها وبين الآخر من جهةٍ أخرى , فالأنا تتحدَّد في متكلمٍ بعينه على المستوى اللغوي , وعلى المستوى السيكولوجي , تتحدَّد عبر حالات الوعي الذاتي من خلال بوابة اللغة التي هي أوجب الأفاعيل الوجدانية ؛ إذ يتم بوساطتها وعي الإنسان لذاتهِ , أمَّا الآخر فقد يتموضع في ذواتٍ أُخَر تكون مرآةً لأناهُ , وقد يتحقَّق هذا الآخر في الذات الإلهية أو في العالم الطبيعي بما يشتمل عليه من كائنات وظواهر على نحوٍ يُبرز التفاعلَ بين الأنا وذاتها أو الذات وذواتٍ أُخَر أو بينها وبين العالم([15]), لقد بدأ الشاعر قيس لفته مراد  في نصِّهِ الشِّعري يتمظهر في نوعٍ من الحوار والحوار الأعمق بين ذاتهِ وذات الآخر , وهو حوار من شأنِهِ أن يعمل على تشخيص النقائض والمختلفات التي يتألف منها الوجود الإنساني , فكان نصُّهُ الشِّعري مزيجاً من الداخل والخارج , الخاص والعام المرئي واللامرئي , الواقعي والشعري([16]),ويحاول الباحث أن يُجلي تمظُهرات الذات والآخر , وتمركُز الآخر وازدياد حضوره في مواضعَ معينةٍ ليعكس اهتمام الذات به وتوافقها معه ؛ إذ إنَّه يصدر عن تجربةٍ شعريَّةٍ لها مسوِّغاتُها نحو الآخر المحبوب أو الغزلي ولذلك فهو من فرط حبِّهِ له وولعه به , نراه يبسط له جانباً كبيراً من عواطفه واهتماماته ليجعله يتمركز على حساب الذات , وطبيعة الخطاب هنا يكون محمَّلاً بالخشية والخوف من الفقدان والصدِّ والتوق إلى الامتلاك , وأحياناً أُخَر تكون الذات مرآة له يقوم بتشذيبها , ويستعرض فيها ما يتخلل ذهنه من أفكارٍ ورؤى , ولذا فإنَّ الذات هنا تحتلُّ نسبةَ المركز قياساً إلى الآخر الذي يكون حضورُهُ مكمِّلاً لصورةَ الذَّات بما يُحقِّق صورةَ التَّلازم بين الذات والآخر , وبمعنى آخر يكون للآخر حضور نسبي يستدعي وعياً من الذات بدلالة وجودِهِ في المشهد الشِّعري, إذ يتدخل هذا الآخر بأشكاله المختلفة في الضّغط على جزءٍ من الذات المتداخلة وتوجيه وعيها ([17]), فنراه يقول :

عالمي عالم الجنون

سلام

عالمي ايها الرجال الحيارى

خارجا عن حدود مملكة الخوف

سواء بدا لكم

أم توارى

من نسيج الأحلام

دنياي حيكت

مثلما تسج السراب الصحارى [18]

المراجع:

[1] فن الحب , بحث في طبيعة الحب وأشكاله : أريك فروم , 20 .

[2] ديوان الفانوس : قيس لفته مراد : 3 0

([3]) ينظر : الذات الشاعرة في شعر الحداثة العربية : 6 .

([4]) الرؤية والعبارة : 84 .

[5] ديوان الفانوس : 4 0

[6] في النقد التحليلي للأدب الفانوس : جاسم كريم حبيب :23 0

7 ينظر : التجليات الفنية لعلاقة الأنا بالآخر في الشعر العربي المعاصر : د. أحمد ياسين السليماني : 425

8 ينظر : صورة الآخر العربي ناظراً ومنظوراً إليه: سالم ساري : 377 .

[9] ديوان الفانوس : 54 0

[10] في النقد التحليلي للأدب :88 0

([11]) ينظر : التأويل والحقيقة ( قراءات تأويلية في الثقافة العربية ) : علي حرب: 56 – 57 .

[12] الفانوس :34 0

([13]) ينظر : النقد الثقافي ( قراءة في الأنساق الثقافية العربية ) : د. عبد الله الغذامي: 94.

([14]) البحث عن الذات ( دراسة في الشخصية ووعي الذات ) : إيغور كون , ترجمة : د. غسَّان أرب نصر: 23

([15]) ينظر : جدلية الأنا – الآخر : د. نجيب الحصادي: 7 .

([16]) ينظر : الذات الشاعرة في شعر الحداثة العربية : 5 – 6 .

([17]) تمظهرات التشكّل السير ذاتي ( قراءة في تجربة محمد القيسي السير الذاتية ) : د. محمد صابر عبيد : 12

[18] ديوان الفانوس : 36 0

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى