الآيات والأمثال.. كما يعقلها العالمون وينكرها الجاهلون

محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري  

“وَتِلْكَ ٱلْأَمْثَٰلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلَّا ٱلْعَٰلِمُونَ” (سورة العنكبوت – آية 43)نوهذا استنباط من الآية يوحي بأن العلم لا يتأتى إلا من إعمال العقل، وأن العقل الحقيقي لا يمكن أن يوصل إلا للعلم، والعلم يصل بدوره إلى الله، ولهذا كان مضرب الأمثال لا يقف عليه إلا أولوا العلم والعقل، وذلك من إمعان النظر، وإصغاء السمع المؤدي إلى الفهم.

ولذلك فإن العلم والعقل هما وجهان لشيء واحد، فالعقل نشاط دائب باحث، والعلم نتاج دائم متجدد لهذا النشاط، والعمل ثمرة العلم.. وقد أوضح الإمام الغزالي هذا في الإحياء في حديثه عن مراحل العلم، فقال: بدايته سلوك الطريق، وتفريغ القلب، ثم الجهد والجد والسعي في التحصيل، ثم انتفاع صاحب العلم بما علم، ثم أخيرا إفاضته على غيره للانتفاع بما انتفع به.

ولما صرف الجهلاء عن حكمة الآيات ومضرب الأمثال، لم يكن هذا إلا بسبب أن أغفلوا ثمرات النعم التي رزقوها، ولم يجعلوها حيث أمروا ، ولم يقفوا بها حيث أريد لهم الوقوف والنظر، فكان جزاؤهم أن سلبوا حكمة بواطنها، وتركوا واقفين عند حد النظر الذي لا يبصرون به، والآذان التي لا يسمعون بها .. أولئك كالأنعام بل هم أضل”فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله.” الأحقاف.

هذا الجحود الذي عطل العقل من جراء وقف السمع والبصر  عند حد الحس، ولم يسم معها صاحبها حيث أريد له السمو، ولم يرتفع بها حيث أريد له الرفعة، ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه”مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا، بئس مثل القوم الذي كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين”.

فهذا نموذج ممن أعطي الآية، ولم يقم بحمل الأمانة المنوطة بها ، ولم يؤد حق التكليف الذي كلفه بمقتضى العقل، ولم يرفع بذلك رأسا، فكان جزاؤه هذا الوصف المهين الذي نعته به القرآن، وجعل منزلته مع منزلة البهائم ، بل أضل .. إذ هي في تعطل عقولها تعمل فيما خلقت له من غير شذوذ، ولا شطط.. وتسبح مع مفردات الكون تسبيح الفطرة” (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) [الإسراء: 44] “.

وآية العنكبوت نراها قد ذكرت أن الأمثال مضروبة للناس كافة، لكنها استثنت منهم أهل العقل، الذي يعملونه بالتفكر والنظر حتى يأخذ بهم إلى حيث العلم، فالعلم فتح من الله من ثمرة إعمال العقل، والانسياح مع منظومة الكون، والوقوف على كل ذرة من ذراته، وكل آية من آياته .. وفي سورة فاطر : يذكرنا الله بآياته وآلائه من إنرال الماء، وإخراج النبات والثمر المختلف ألوانه، والحدائق ذات البهجة، وعجائب خلق الجبال قطعا.. بيض وحمر وغرابيب سود، وكذا التنوع في خلق البشر والدواب والأنعام.. ثم يذكر أنه لا يقف كذلك على كل هذه الآيات إلا عباد الله العلماء، والتي تأخذ بهم إلى خشية الله” وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)” فاطر.

قال القرطبي رحمه الله في التفسير: “يَعْنِي بِالْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يَخَافُونَ قُدْرَتَهُ، فَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدِيرٌ أَيْقَنَ بِمُعَاقَبَتِهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، كَمَا رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ” إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ” قَالَ: الَّذِينَ عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ على كل شي قَدِيرٌ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: مَنْ لَمْ يَخْشَ اللَّهَ تَعَالَى فَلَيْسَ بِعَالِمٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّمَا الْعَالِمُ مَنْ خَشِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: كَفَى بِخَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى علما وبالاغترار جهلا.”

وقال أبو السعود: “أي إنَّما يخشاه تعالى بالغيب العالمون به عزَّ وجلَّ وبما يليق به من صفاتِه الجليلةِ وأفعالِه الجميلةِ لما أنَّ مدارَ الخشية معرفة المخشى والعلم بشئونه فمن كان أعلم به تعالى كانَ أخشى منه عزَّ وجلَّ كما قال صلى الله عليه وسلم أنا أخشاكُم لله وأتقاكُم له.”

أما الآيات المنثورة في الكون، والمنشورة في كتابه المفتوح المطروح للنظر والتأمل والتفكر والتدبر، فهي لا تستوقف إلا أولوا الألباب، أما المصروفون بسبب إعراضهم، فهي لا تستوقفهم”وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون” يوسف .، والإعراض هنا هو صميم الإغفال للعرض، وكأن الآية من الوضوح والدلالة بحيث تعترض طريق كل من له عقل أو نظر، ومع مطابقة آية الكون لآية الفطرة الحق من داخل النفس.. فإن العقل لا يلبث أن يقنع بأنها من عند الحق، لكن الإيمان يظل مداره مع القلب .. ولا يرزقه إلا من سبق فيه العلم بالإيمان، ومن كتبت له الهداية.

وأما آيات القرآن فقد جاءت شارحة ومفسرة لآيات الكون، بل يقرآ كل منهما الآخر ويفسره، لكن القرآن جاء داعيا وهاديا ومشرعا ومعرفا بهذا الإله المبدع لهذا الكون، والخالق المسخر لهذه الٱيات الكونية، فمن يقف بعقله تأملا ونظرا واعتبارا، فهو يسيح مع الوحدة الكونية توحيدا وتعبيدا، ثم علما وفيضا.. وأما من كان مع غفلة وعن إعراض .. فقد جاءته الٱيات القرٱنية تدعوه، وتعرفه وتذكره وتحذره، وتأخذ بلباب نفسه، وتستنفر من سبات فطرته، وتزيح ما ران عليها، وتنفض عنها ماورثت من ضلالات قديمة موتورة، من غوابر الٱباء والأجداد، وتفند كل دعوة باطلة قدمت من تراث الغيب، وتجتثها فما تدع لها من قرار..

لكن هذا أيضا لابد له من إعمال العقل، وتفعيل التدبر، مع الاحتكام لمطابقة الفطرة وتناغمها مع هذا المنهج الذي يقيم حجته على دعواه من الكون وٱياته، والنفس وفطرتها، ثم يترك الحكم في النهاية للعقل “كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا ٱياته وليتذكر أولوا الألباب” {ص}.

مع الحث كذلك على إدامة النظر، والمقارنة بينه وبين دعاوى الحكماء والفصحاء والبلغاء والأدعياء من قبله ومن بعده، مع الاحتفاظ حين ذلك بيقظة القلب والحيادية مع التخلص من هوى النفس الذي يفسد حكم العقل، ويبطل حقائق العلم”أفلا يتدبرون القرٱن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا”{النساء}.. ” أفلا يتدبرون القرٱن أم على قلوب أقفالها”{محمد}.

وهكذا تساق الٱيات مبصرة، وتضرب الأمثال مفكرة، ومعلمة وبين هذه وتلك يبصر  العقل، أو يعرض، وتقبل النفوس أو تدبر، فمن أبصر وأقبل علم علم مالم يعلم، وكان إقباله فتحا له، ومن أعرض وأدبر لم يضر إلا نفسه وكانت عاقبته السوء والتكذيب والخسران.

” لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِۚ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) (الحشر)

“وعَنْ أبي موسى قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه ﷺ: إِنَّ مَثَل مَا بعَثني اللَّه بِهِ منَ الْهُدَى والْعلْمِ كَمَثَلَ غَيْثٍ أَصَاب أَرْضاً فكَانَتْ طَائِفَةٌ طَيبَةٌ، قبِلَتِ الْمَاءَ فأَنْبَتتِ الْكلأَ والْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمسكَتِ الماءَ، فَنَفَعَ اللَّه بِهَا النَّاس فَشَربُوا مِنْهَا وسَقَوْا وَزَرَعَوا. وأَصَابَ طَائِفَةٌ مِنْهَا أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلا تُنْبِتُ كَلأ فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينَ اللَّه، وَنَفَعَه بمَا بعَثَنِي اللَّه بِهِ، فَعَلِمَ وعَلَّمَ، وَمثلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذلِكَ رَأْساً وِلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ متفقٌ عَلَيهِ.

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى