شمعة أمل

هند خضر | سوريا


الّليل يأكل كلّ شيء بطريقة مجنونة ،يبتلع ضوء النّهار ليلقي بظلامه الحالك على جسد الطّبيعة المرهق فيمنحه بعضا من السّكون ،
مدائن ممزّقة كتمزّق السّفن فوق الشّطآن ،بلّل الحزن أطرافها حدّ الغرق ،تسبح في الفراغ ، تحوّل الغبار في طرقاتها إلى حفنة من الأسئلة حول مايجري خلف نوافذها الّتي تلثم المواجع يوميّاً ،
زجاجات تكسّرت وقد خلت من عطر يقبع في داخلها كما تتكسّر قطع المرايا ..
تتزاحم الكلمات في تباريح الّليل وتناشد لتمزّق رحم الزّمن ، لقد بات الظّلّ مثقلاً بألم الوقت، والدّروب على مايبدو مغلقة لا توصل إلى برّ الأمان ،
‏لحظات مصقلة بمشاعر الحيرة بين البقاء والرّحيل الّتي انتابت قلباً أصبحت جدرانه باردة جدّاً مع مرور سنين العمر حتّى تجمّد في صقيع الصّمت والصّبر ،إنّه قلب تلك السْيّدة المسنّة الملقّبة ب أمّ أحمد والّتي حكم عليها زمانها بوفاة زوجها المبكْر ،آثرت أن تربّي طفلها على أن تتزوّج مرّة ثانية ،ولم يكن أمامها خياراً بعد أن زوّجت أبنها الوحيد سوى العيش في كنفه ..
‏يُعتبر أحمد ابناً بارّاً لوالدته ،عاهد نفسه أن يقوم بواجبه تجاه أمّه على أكمل وجه عرفاناً لها على تضحيتها الّتي لاتُقدّر بثمن ..
‏لكنّ الأمر كان مختلفاً بالنّسبة للزّوجة ريم الّتي تعتبر وجود أمّ زوجها معها بمثابة عبء ،كانت تفتعل المشاكل كلّما سنحت لها الفرصة كي تجبرها على الرّحيل ولكن أمّ أحمد لم تكن تتفوّه بكلمة وكلّ ما بوسعها فعله هو أن تنزوي في غرفتها ،تستلقي على سرير من الأشواك وتلتفّ بثوب من العدم ،تجمع ما تبقّى من أيّامها المتناثرة على قصاصات العمر ،تلملم دموعها على شراع الأمل المستحيل وتربّت على كتف الوقت في انتظار اللّاشيء ..
‏ذات ليلة التقت فيها عقارب الدّقائق والثّواني مع بعضها ،التّوقيت الفاصل بين نهاية يوم وبداية آخر ،استيقظت أمّ أحمد على أصوات تخرج من حنجرة الكنّة لتخترق قلبها كالسّهام وتسبّب لها شرخاً كبيراً ..
ريم :لايمكنني أن أكمل مشواري معك على هذا النّحو ،القرار لك إمّا أنا أو أمّك ..
حاول أحمد في بادئ الحديث أن يستوعب ما قالته زوجته و طلب إليها أن تُخفض صوتها كي لا تسمع أمّه فهو حريص على مشاعرها للغاية قائلاً لها :
إنّ من تضعين نفسك في مقارنة معها أريد أن أذكّرك أنّها أمّي ،تلك المرأة الّتي أكل الصّدأ قطعة من قلبها واهترأت روحها وهي تنتظر على جسر التّرقّب تعدّ الأيّام كي أكبر وأتزوّج ،كانت تعتصر السّعادة من قلب حزنها كي ألتقطها بأناملي ،كانت ترفض كلّ من يتقدّم لها كي لا تحرمني من حنانها ،كانت وكانت …واليوم تأتين و بكلّ بساطة تطلبين منّي أن أقرّر بينكما ؟
أيّ جنون هذا ؟!
كلمة الفصل الّتي سأقولها :أنا لن أتخلّى عن أمّي ما حييت ..
ريم :لا شأن لي بهذا سأغادر البيت وإن حصل وتراجعت عن قرارك تجدني بانتظارك ..
في هذه الأثناء فُتِح باب الغرفة ،خرجت أمّ أحمد وبجعبتها أغراضها نظرت إلى ابنها وقالت :
أنا من سيغادر البيت يا أحمد ،أكمل حياتك مع زوجتك فأيّامي قد تكون معدودة ولكن سعادتك مازالت الأهمّ بالنّسبة لي ،بهذه الكلمات اتّجهت نحو باب المدخل ،وضعت يدها على المقبض لتجد يداً تمتدّ إليها وتغمرها بحنان وعطف ..
أحمد :لن تخرجي من هنا يا ملاكي إلّا عندما يُخرجون جثماني ،لطالما عشتِ حياتك لي والآن جاء دوري لأعيش من أجلك وأضيء لك شمعة أمل في ليلك الدّامس ..
صوّب نظره نحو ريم وأنهى حواره بقوله :
باب البيت مفتوح بإمكانك الخروج منه للأبد فأمّي هي الشّمس الّتي لا تُشرق في عمري مرّتين .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى