من كتاب مكامن الإبداع…

عبد الله جمعة | ناقد وشاعر مصري

من كتابي “مكامن الإبداع” ج١ التفكير * المرحلة الثانية مرحلة الامتلاء الفكري قلنا إن الشاعر في مرحلة البحث عن روافد مغذية للفكر يسعى بكل طاقاته إلى تحصيل المعرفة من مختلف مشاربها و مظانها و هناك نوعان من السعي لتحصيل المعرفة : ١- سعي رأسي : و يمثل رغبة الشاعر المُلِحَّة في الاطلاع على كل معرفة تعنُّ له بامتداد عمره زمنيًّا أثناء حياته الواعية العادية دون اللجوء إليها لتغذية تجربة ما بعينها . ٢- سعي أفقي : و يمثل رغبة الشاعر في التعبير عن موضوع ما فيسعى على المستوى الأفقي الآني فيحاول أن يجمع المعارف الداعمة لحظيًّا للتجربة التي هو بصدد الخوض فيها . و سأضرب مثالا على ذلك : قضية (سفن الحرية) التي تعرضت لها إسرائيل قرب المياه الإقليمية الفلسطينية عام ٢٠١٠ تفاعل معها كثير من الشعراء فأخرجت لنا تجارب كثيرة و لكننا حين طالعنا التجارب الشعرية التي صاحبت الحدث وجدناها قد انقسمت قسمين : (أحدهما) : تناول الأمر من منظور عاطفي لم يخرج عن حيز التعاطف الوجداني و قد انتهى تأثير تلك التجارب بانقضاء الحدث ذاته و دخوله إلى ذاكرة التاريخ بالرغم من حدة التجارب الانفعالية في حينها فلو طلبنا من أحد الذين صاغوا تلك التجارب أن يعيدها على أسماعنا الآن ما حرَّكَتْ فينا راكدًا ؛ لأن فورة الانفعال قد هدأت و انتقلنا جميعًا إلى مرحلة التفكير فيما حدث ؛ ما دوافعه ؟ و ما أهدافه ؟ و ما حقيقة الصراع العربي الإسرائيلي ؟ . و من ثم أصبحت تلك التجارب الشعرية فاترةً الآن ؛ لأنها لم تكن مدعومة بالرافد المعرفي اللازم لإبقائها تجارب حيَّة في وجداننا ، فقد تفاعلنا معها – تلك التجارب الشعرية – تفاعلا وقتيًّا لكنها اندثرت الآن من ذاكرتنا . (ثانيهما) : تجارب صاحبَ وجدان أصحابها رافدٌ معرفي أجاب عن كثير من التساؤلات التي تعنُّ لنا حول حقيقة الصراع العربي الإسرائيلي حيث كانت هذه الطائفة من الشعراء قد اختزنت في ذاكرتها المعرفية حقيقة توازنات القوة في المنطقة و خفايا ذلك الصراع فأنتجت لنا تجارب مازالت باقية حتى اليوم نرددها ليس لأنها قد عبرت عن الحدث كحدث انفعالي آني و إنما لأنها مسَّتْ جزءًا من صراعنا التاريخي مع هذا الكيان واستقرأت توازنات القوى في المنطقة فبقيت تجارب رائدة حتى يومنا و ستبقى ما بقيت ذاكرة التاريخ ليس لشيء إلا لأن شعراء تلك التجارب قد نجحوا في تغذية تجاربهم بالروافد المعرفية اللازمة . و هنا يحضرني قصيدة للشاعر السوري (عمر هزاع) تظهر مدى وصول الشاعر لمرحلة الامتلاء الفكري الذي يملك رافدًا معرفيًّا رأسيًّا يمثل قدرته المعرفية العامة دون الحاجة إلى اللجوء لاطلاع أفقي لخدمة تجربته و هي بعنوان (اليوم أعتزل الكتابة) : يا أيها المتقلبون على الكآبة و العاكفون على ممارسة الرتابة يا أمة سَلَّتْ سيوف الحرب من وجع الربابة لقد انسلخت اليوم من زمني و من وطني و من قدر انتمائي و اكتفيت اليوم من نفسي و من يأسي و من طرح السؤال و لا إجابة أنا منذ عام النكبة الأولى و منذ النكسة الأولى ألوكُ الشعر من تسعين جرحًا منذ عهد الثورة الكبرى مرورًا باتفاقيات ؛ ” كلمنصو” و “كامب-ديفيد” و “شرم الشيخ” – “خارطة الطريق” … و منذ مصطلح التوحد و التحرر و الشعارات التي صارت دعابة أنا منذ ذاك الوقت مسكون بأوجاع الكتابة و اليوم أعتزل الكتابة إن المتابع لهذه القصيدة يدرك بيُسرٍ دون عناء ذهني مدى امتلاء هذا الشاعر معرفيًّا و قدرته على الاستدعاء المعرفي السريع الذي يدل على أن الرافد المعرفي في حالة استنفار و استعداد للاستدعاء دون معاناة ؛ فالشاعر سوري عايش ويلات الحرب السورية الآنية التي نشأت عما سُمِّيَ بالربيع العربي و من ويلات معاناته نتجت التجربة التي يصب فيها نقمته على الواقع العربي الذي يراه واقعًا أليمًا قد أدى إلى التشرذم و تفكيك الأواصر مما ساعد على سقوط سوريا في هذا المستنقع الأليم فاستدعى كل ما رآه كان سببًا في بلوغ المجتمع العربي هذا المبلغ من التفكك و الانهيار حيث بدأ الخنوع منذ اتفاقية “كليمنصو” التي وقع فيها الأمير (فيصل بن الحسين) باسم أمير سوريا مع (جورج كليمنصو) رئيس الوزراء الفرنسي نص الاتفاق على قبول المملكة السورية الانتداب الفرنسي و على الاعتراف بأن السوريين لا يستطيعون في الوقت الحاضر – إبان توقيع الاتفاقية – أن يحققوا حريتهم نظرًا للخلل الذي أصاب النظام الاجتماعي نتيجة للاحتلال التركي و عدم قدرتهم على تنظيم و إدارة أمتهم دون مشاورة دولة صديقة هي فرنسا على أن يقدم هذا الطلب و يسجل في عصبة الأمم باسم الشعب السوري … ثم أتبع ذلك باتفاقيات هو يراها لا تقل خضوعًا و خنوعًا و إذعانًا عن اتفاقيةع كليمنصو كـ كامب ديفيد و شرم الشيخ و خارطة الطريق … لولا أن الشاعر ممتلئٌ معرفيًّا بتلك الحقب التاريخية ما نجح في إيصال تجربته إلى المتلقي فقد أحال الحال إلى واقع تاريخي مؤلم جاعلا تجربته مرتبطة به ارتباطًا وثيقًا لا تنسى بفعل التقادم الزمني . و ما جعلني أجزم أن الشاعر قد استدعى ذلك الرافد المعرفي من المخزون السابق للتجربة ، تلك السهولة و اليسر في الربط بين الماضي و الحاضر دون جهد أو معاناة و كأن المخزون المعرفي قد كان جاهزًا للاستدعاء الآني من مخزن ذاكرة الشاعر المعرفي دون الحاجة إلى التوقف للبحث عن رافد مغذٍّ لتجربته فجاءت الضفيرة المعرفية ممزوجة بالحدث الشعري في نسج واحد لا يكاد المتلقي أن يميز بين الحاضر و الماضي عند استقباله للحدث الشعري . هنا أقول : إن تلك الطائفة من الشعراء الذين بلغوا مبلغ الامتلاء المعرفي قد نجحوا في تمرير موجاتهم الوجدانية الشعرية بصورة آمنة مطمئنة للمتلقي … و أعيد ؛ الامتلاء لا الاكتفاء ؛ فمصادر المعرفة لدى الشاعر متجددة لا تنضب و الشاعر الذي يظن في نفسه الاكتفاء فقد آذن بالخواء و دخل دائرة الاجترار الشعري … و في ذلك حديث مفصل .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى