فكر

قراءة أوّلية في وعي (الذات) ووعي (الآخَر)

بقلم: عماد خالد رحمة | برلين
لم تتوقَّف المناظرات بينَ الفلاسفةِ والمفكرينَ حولَ جدليةِ (الأنا) و(الآخر) كَوْن (الأنا) يَنظر إليها على أنَّها الأفضل والأجمل والأكمل والأصوب، وأنَّ (الآخر) هو التناقض والمُشتَّت، والناقصُ والأسوأ. هذه النظرية بكلِّ حمولاتها السلبية هي نظرية ضدّية عدائية تكرِّس حالةَ الانفصال بينَ (الأنا) و(الآخر) بشكلٍ تعسّفي، كونها نظرية تعدّد (الأنا) و (الآخر) في مجالات الفكرِ والفلسفةِ والسياسةِ والأدب والفن. إلى غيرِ ذلك من مجالاتِ المعرفة الإنسانيةِ. فقد رأى الفيلسوف والكاتب المسرحي الفرنسي (جان بول سارتر Jean-Paul Sartre) (1905 ـ 1980) م، أنَّ وجودَ الغير (الآخر) ضروري من أجل وجود (الأنا) ومعرفته لذاته. من هنا فالغير الجوهري والأصيل عنصر مكوِّن لـ (الأنا)، ولا غنى لهُ عنهُ في وجودِهِ على الإطلاق، غيرَ أنَّ العلاقةَ الجاذبة والنابذة الموجودة بينهما، هي علاقة خارجية وانفصالية ولا ترابط بينها، ينعدمُ فيها التواصل ما دامَ يُعامِلُ بعضهما البعض كشيءٍ غير محدَّد، و ليس كـ (أنا) و(آخر)، و يقدِّم سارتر Sartre مثالَ المتبادلة بين (الأنا) و(الآخر) حين يُصبحُ الغير جحيم. من هنا تمَّ اعتبار مفهوم الذات (الأنا) من أهم وأعمق المفاهيم النفسيّة والإنسانيّة في حياةِ الفرد والمجتمعات البشرية جَمعاء. ولهذا فإنَّ أيّ عطبٍ أو أيّ خللٍ، أو أي نقصٍ يعتريهِ من ناحيةِ الوعي والفهم المتكامل والشّامل له، أو في كيفيةِ التفاعل والتعاون معهُ، قد يؤدّي إلى توجيهِهِ نحوَ اتجاهاتٍ خاطئة. ومساراتٍ مغايرة، وهذا بدورِهِ يؤدّي إلى المزيد من الانهيار الكامل والكلّي، أو الجزئي في قناعاتِ الإنسان الشخصية بأشياءَ عديدة من حولِهِ. والذي قد يقودَهُ للرفض التام، وعدم القبول لذاتِهِ. وهي حالة نفسية لها خصائصها المرضية التي تتضمّن خطورةً وسلبيةً لوجودِهِ الحيويّ، إذ قد تجعلهُ أقرب إلى الجمادِ والسكون الكلِّي منهُ إلى الإنسانِ الحيوي الفاعل. مما يعني الشلل لجميع إمكانياتهِ وطاقتِهِ وفاعليتِهِ في الحياةِ الإنسانيّة. لذا على الإنسان أن يُحاول جاهداً بما أوتي من إرادةٍ وقوّةٍ أن يفهم ذاتَهُ (الأنا)، ويعمل على تحقيق إيجابيتها وفاعليتها.
لقد ابتدأت معظم الأديان منذ وقتٍ مبكر في طرح تلك الجدلية، ثم أخذ السجال الفلسفي مساحةً واسعةً من الحوار والنقاش كموضوعٍ افتراضي، أطلق عليه النفس، أو الروح. ثم تغيَّرت مدلولاته ومعانيه في علم النفس، وعُرِفَ كمفهوم نظري سيكولوجي Psychology منذ القرون الوسطى، وتحرَّك معه كتكوين وماهية متعلِّق بهِ بمفاهيمَ ومصطلحاتٍ جديدةٍ (الأنا ـ الذات) ومفهوم (الذات). فقد وجدنا أنَّ الأدب النفسي لمفهوم (الأنا ـ الذات) يُشيرُ إلى أنَّ الفيلسوفَ وعالِمُ النفس الأمريكي ومؤسِّس علم النفس الأمريكي (ويليام جيمس William James) (1842 ـ 1910) م قد أكَّد من خلال كتابِهِ الهام بعنوان : (مبادئ علم النفس) الصادر عام (1890)، قد مهَّد الطريق أمام العديد من النظريات المعاصرة، وله الفضل الأول فيما قدمه من دراساتٍ محكّمةٍ عن (الأنا) أو (الذات) ومفهوم (الذات). تلاها نظرية الفيلسوف وعالم الاجتماع الأمريكي (جورج هيربرت ميد) George Herbert Mead)‏) (1863-1931) حول (الذات) أو (الأنا) المشكَّلة اجتماعياً، ونظرية الذات الاجتماعية (soziales Selbst) لعالم الاجتماع الأمريكي تشارلز هورتون كولي (Charles Cooley)‏ (1864-1929). ونظرية اتساق الـ (ذات) الـ (أنا) (ليكي Lecky)، وغيرها. التي أصبحَ مفهوم (الذات) (الأنا) يحتلّ فيها مركزاً محوريّاً وهاماً.
في الحرب العالمية الثانية وما بعدها انتعش مفهوم (الذات) (الأنا) من جديد، بشكلٍ حيوي، وأصبح يمثِّل أكثر من كونه نظرياتٍ في الشخصية، بل أصبح يمثّل القاعدة الرئيسية وحجر الزاوية في العديد من النظريات التي قامت عليه بالدرجة الأولى، كنظريةِ (الذات) (الأنا) التي قدّمها، بخاصة نظريات (الذات) كنظرية الباحث فيليب فرنون (Vernon) عام (1946) ونظرية: سنيج وكومز عام (1949)، ونظرية عالم النفس الأمريكي كارل روجرز (Carl Ransom Rogers)‏ (1902 – 1987) الذي قامَ (مع عالم النفس الأمريكي ابراهام ماسلو ( Abraham Maslow)‏ (1908 – 1970) بتأسيس التوجّه الإنساني في علم النفس .مع كارل روجزر (Carl Ransom Rogers)‏ عام (1951). فقد اقتبسوا مما جاء في كتاب (والاس لابين وبيرت جرين) الصادر عام 1981 مستفيدين مما ورد في الصفحة 41، ترجمة فوزي بهلول، مراجعة وإشراف سيد خير الله.
كما شكّل مفهوم ومدلول (الذات) (الأنا) إطاراً للعديد من النظريات كنظرية طبيب الأعصاب والطبيب النفسي الألماني كورت غولدستن (Kurt Goldstein )‏ (1878ـ 1965) م، وإبراهام ماسلو( Abraham Maslow)‏ عام (1954) حيث قدَّم كل منهم نظريات متداخلة ذات تأثير قوي في الشخصية والفرد بشكلٍ عام في هذه النظريات يفهم في ضوء كيفية إدراكه لـ (ذاته) (الأنا) .هذا المفهوم بكلّ مدلولاتِهِ كانَ قد مثَّل جانِباً مُهمّاً في البحوثِ والدراساتِ النفسيّةِ والتربويةِ الحديثةِ والمعاصرة، كما أصبح حجر الزاوية في الكثيرِ من الدراساتِ والبحوث العلميّة المحكّمة .
إنَّ مفهوم (الذات) (الأنا) كمفهوم شعوري يَعيهِ الفرد ويَفهمهُ، كما يشكِّل أهميةً كبيرةً بارزةً لهذا الفرد، حيث يضعه في بداية الطريق الصحيح في فهم نفسه (ذاتَهُ) والتعرُّف على كيانِهِ الشخصي الإنساني، وبالتالي فِهم وإدراك (الآخرينَ)، سَواءَ أكانَ المجموع البشري من حولهِ، أو البيئة الماديّة التي تحيطُ به. وهنا نجد أنَّ معظم الباحثينَ والدارسينَ المتخصصين يتفقونَ على أنً وظيفة مفهوم (الذات) (الأنا) هي العمل على وحدةِ واتساقِ وتماسك الجوانب المختلفة والمتنوّعة للشخصيّة، وإكسابَها طابعاً متميزاً وخاصيّة متفرِّدة، كما يقوم مفهوم (الذات) (الأنا) بتنظيم عالم الخبرة والمعرفة المحيطة بالفرد في إطارٍ متكامل، ومن ثمّ يكون بمثابة القدرة والطاقة الدافعة لسلوك الفرد في مجتمعه، وأوجه نشاطاته المتعددة في الحياة الإنسانية العامة.
ومفهوم (الذات) (الأنا) يعتبر أهم من الذات الحقيقية في تقرير وتحديد وتنظيم السلوك لدى الفرد، باعتباره مفهوماً دينامياً يناضل الفرد من خلاله في بلورة وتنظيم عالم الخبرة المتغيّر الذي يوجد الشخص في وسطه. باعتباره مفهوماً معرفياً منظماً بإحكام، ومتعلماً للمدركات الشعورية الخاصة بـ (الذات) (الأنا) نفسها. يتأثر بالبيئة والوراثة كما يتأثَّر بالآخرين في حياته، وبالقيم والمعتقدات، والنضج والتعلم، وبالحاجات المتنوعة. وينمو تكوينياً كنتاج للتفاعل الاجتماعي الحيوي جنباً إلى جنب مع الدافع الداخلي. ويلعب دوراً كبيراً ورئيسياً في تأثيره على اتساق السلوك والمنهج الحياتي، والعمليات الادراكية، والتعلم والتحصيل الأكاديمي، والصحة النفسية وتربية الطفل والتوافق المدرسي. وتعتبر فكرة المرء عن نفسه (ذاته) عاملاً مهماً جداً في توجيه سلوكه ونهجه وتوحيده مع السلوك الجمعي، ويتصرّف مع الناس تبعاً لها ولإرادتها.
فعلى الرغمِ من أنَّ جّدلية الـ (ذاتِ) الـ (أنا) والـ (آخر) في كلِّ ثقافاتِ الشعوبِ تتكوَّن من جانبينِ متقابلينِ يدخلانِ مع بعضهما البعض في علاقةِ تناقضٍ واضحة. وهما حدَّانِ تربطهما قوّة جاذبة وقوّة نابِذة وليسا منفصلين، ولا يمكن تصوَّر أحدهما، أو تصوّر معنى الأوحد عمل من دون (الآخر). ذلك لأنَّ جدليةَ (الأنا) و(الآخر) تمنعُ من دونِ اجتماعِ التنافُرِ والتناقضِ إلى الاتصالِ بينهما في الوقت نفسه. أيّ من دون تلك العلاقة الوشيجة المتراصة من التلازم النزاعي التي تشدُّ بقوةِ الجذبِ الواحد منهما إلى (الآخر). لذلك يخبئ سعي كلّ حدٍ منهما إلى فهمِ الثاني وإدراكَهُ سَعياً في الوقتِ نفسَهُ إلى اكتسابِ المزيدِ منَ الوعي (الذاتي)، أو تحقيقَهُ وتجسيدَهُ، وفي حقيقةِ الأمر يمكننا القول إنَّ وعي أيِّ (أناً) غَيريَّة أيّ ما يجعلهُ (آخراً) غيرَها، هوَ شرطٌ لا بدَّ من تحقيقه لوعيها بما هي (أنا) مختلفة ومتناقضة وغير متمايزة.
من هنا فإنَّ الوعي الذاتي هو فعلٌ معرفيٌّ مبنيٌّ على وعي الآخر ومتكئ عليه، فـ (الأنا) غير قائمة ومستوية، أو مرتكزة بذاتها، بل بعلاقةٍ تتحدَّد ضمنها بوصفها كذلك، أيّ (أنا)، ومتلاصقٌ معها في تلكَ العلاقةِ هو الذي يمنحَهَا القدرَة على وعي نفسها من خلالِ وعيهِ هو (الآخر) ،لذا فإنَّ الـ (أنا) ثمرةُ جدليةٍ تقف في مواجَهةِ ما يُخالِفها أو مقابلة لها، فتبدو كهويةٍ منبثقةٍ من ذاتِها وهي هُويّة مختلفة. وهي بطبيعة الأمر علاقةٌ معقّدة بينَ حدّين متباينين، تقفُ أمامَ كيفياتٍ متعدّدة ومتنوعةٍ لوعي الـ (أنا) ذاتَها في تلك العلاقة التي تَجذِبها إلى الـ (آخر) ضمنَ كيفيّةِ الوعي بالـ (آخر) المتفوِّق والمتعالي، أو بما يَملك من قوةٍ وسطوةٍ فيهِ، وفي نموذجِهِ المعرفي والثقافي والاجتماعي، هذه اللحظة لا تنشأ منَ الوعي الإيجابي إلّا عندما تتخفَّف الـ (أنا) من تمركزها الذاتي ومن نرجسيتها، وهي ضمنَ نسقينِ، الأوّل :عندما تكون الـ (أنا) قويَّةً وشديدةَ الثقةِ باستقامة نموذجها الإنسانيّ الحضاريّ، وشديدة الثِقَةِ بذاتِها. والثاني : عندما تكونُ منطوية النَفسِ على شعورٍ بالنكوصِ والاستسلامِ والانكسار، وفاقدةً للثقةِ القويّةِ الذاتيةِ بالكليّة. والنسقان تقودانهما إلى نوعينِ إثنينِ من الوعي شديدي التناقض والتباين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى