مقال

الثنائية التشكيلية في قصيدة: فلسفة الحياة والموت للشاعر التركمانيّ رضا جولاق أوغلو

محمد قدو أفندي | أنقرة
الشاعر التركماني رضا جولاق اوغلو غني عن التعريف في عالم الأدب التركي بصورة عامة والأدب العراقي التركماني بصورة خاصة فهو بالإضافة إلى كونه شاعرا وأديبا متميزا فهو إعلامي وقدم الكثير من البرامج الأدبية التركمانية في الإذاعة والتلفزيون العراقي القسم التركماني في سبعينيات القرن الماضي، بالإضافة إلى كل هذه الروافد الذي يتميز بها فإنه يعتبر من مؤرخي الثقافة والأدب التركماني وساعده في هذا المجال كونه أكاديمي وخريج قسم التاريخ في كلية الآداب جامعة الموصل, ويكاد يكون المؤرخ المرجع في حقل الثقافة التركمانية.


أهداني بعضا من نتاجاته الشعرية ودواوينه مشكورا والذي يحتوي قصائد جميلة في كل ميادين الشعر التراثي والغنائي والغزلي والفلسفي وهذا الميدان الأخير أي الشعر الفلسفي اهتم أنا به على وجه التحديد له ولكل الشعراء لأن طابع الشعر الفلسفي يتقيد في مساحة ضيقة ولايستطيع استخدام شواخص مادية أو كلمات بركانية غزلية أو وصفية، بل يتسلق سما النفس والخواطر ويهيمن في أبداعاته على معترك الحياة والوجود.
في قصيدة فلسفة الحياة والموت التي قرأها على مسامعي مشكورا رجوته أن يترجمها للغة العربية وبصيغة شعرية حتى تكون قريبا جدا من مسامع القارئ العربي في حال أستعاضتي لأبيات من شعره في كتابتي لنقد القصيدة.
بداية نستعين بقول الأديب والناقد الفرنسي فاليري – بأنه لايوجد معنى حقيقي للنص – ،على اعتبار أن النص الأدبي ليست تسمية حرفية لشئ ما كما إنه لا يدخل في موازين الخطب السياسية أو التعاملات الاقتصادية والعلمية البحثية وكأنما يشير إلى وجود معنى غير حقيقي يمكننا تسميته بالمعنى الجمالي الذي يحقق شعرية النص، وبهذه فإن الترجمات الأدبية من شتى اللغات لاتفقد جماليتها في حال إبداع الشاعر في توظيف واستثمار طاقاته الفكرية الإنسانية بجدارة.
طوبى لمن يترك أثراً بعد رحيله
يموت وقد خلّد ذكراً حسنا بعده
في الوقت الذي تُمزّقُ الاشواك الثياب
تترك الورود عطراُ فوّاحاُ في حاسة الشّم
الثنائية في السرد في أول القصيدة: الأثر والرحيل والموت والذكر والأشواك والورود هي توظيف متقن لفضاءات ومساحات استقبال القارئ لهذه الأبيات من خلال مستقبلاته السمعية البصرية، وهذه الثنائية ومن خلال مزج كثافة تشكيلة مكانية وزمانية مختلفة شكلا ومهاما هي التي تفرض طاقة هائلة على السرد الشعري في هذه الأبيات. ودليلنا في مزج كثافة تشكيلية يتجدد في البيت التالي:
تختلف طعم الفواكه التي تُسقى من ماءٍ واحدٍ . . .
في الابيات التالية التي أبدع بها الشاعر كونه أستطاع تثبيت رموز منتجة للمعنى المقصود من فلسفتي الحياة والموت أضافة الى الثنائية المعهودة والتي لم يغفل عنها الشاعر في جل أبيات القصيدة:
الحياة هي مزيج من المآسي والمسرّات
يطوف الزبد فوق الماء وتستقرُّ الدرر في الاعماق
يموت أحدهم وعينيه في حطام الدنيا
والذي يبقى في الدنيا هي ركام الدنيا من الدنانير .
إن كانت ثنائية المآسي والمسرات، والزبد والدرر، والموت وحطام الدنيا هي ثنائية تقليدية في حياتنا منذ أن خلق الله الإنسان على وجه الأرض فإن اختيارها بهذا الوضوح وإعادة ترتيبها بصورة آنية من واقع متكرر أو من مشاهدات حياتية عملية ونظرية تعتبر جرأة وربما مغامرة إبداعية موثوقة في نظر الشاعر أستنادا إلى تجاربة السابقة في الكتابة وردة فعل جمهوره في مايطلقة من صيحات وجدانية، أي إن تلك الأبيات الثنائية والحقائق المتسلسلة استطاعت إعادة تشكيل نصي جديد للحياة من خلال كشف تلك العلاقات والغموض في حركة الحياة ومعتركها إضافة إلى كشف معانٍ ووقائع لم تكن موضحة بهذه الكيفية .
يُقال طيراً لكل من العصفور والنسر
هذا يؤكل لحمه وذاك يتغذى على اللحوم
لا شك من انتصار أحد المتقاتلين
يعيش هذا ويذهب الآخر الى حيث القبور …….
المتاضدات عند العصفور والنسر فريسة ولقمة سائغة يخالف كواسر الطير، ونصر مقاتل وإعادته للحياة وفقدان الآخر وخلو الحياة منه تشكيلة تراجيدية ثنائية تعكس صور من الحياة والتي يغلب عليها طابع المأساة أحيانا عندما يرافقها كوميديا سوداء، بل إن بعض هذه المشاهدات تهدأ كثيرا من الصراع النفسي للتعلق بالحياة أو الرغبة في التطاول على ساحات غير ساحته ناسيا البرهة القصيرة في دورة حياته .
هناك أمر أخر أراد الشاعر إظهاره خفية ولكن بإيقاعات موسيقية عالية صاخبة طاغية على باقي مناحي الحياة وهو أن الاندفاع بقوة بالتسلق بأهاديب الحياة الضعيفة يتطلب قسوة شديدة قد تنهي مراحل دورة حياته إن لم يفز بها بهذه الكرّة، لأن انتصار أحد المقاتلين ينهي حياة الآخر ثم يحاول المنتصر من إعادة مغامرته الغير معروفة النهاية .
إذا اتّخذ السلطان قراراً ما …!
فوزيريه ِ المقرّبَيْن لهما اليد الطولى في ذلك القرار
فالطبّال يقرع …والغجريّة ترقص
والدور الأساس على المسرح يلعبه الشيطان ….
هذه الثنائية والجدلية القديمة المتكررة بين حاشية السلطان والسلطان وأنا إذ أقدم حاشية السلطان على السلطان نفسه لأن دور هؤلاء هو طبع صورة حقيقية لهوية السلطان وخصوصا إذا رافق هؤلاء طبال يقرع وغجرية ترقص على دقات الطبول وهذه ثنائية شكلية وحقيقية تتجدد في الزمانات والمكانات، السلطان وحاشيته والراقصة والطبال ومخرج وشيطان يتقن اللعب على مسرح الحياة.ويختم شاعرنا ثنائيته ومجادلاته بالبيتين:
هناك من لا سريرة َ له …
وآخر يصطحب أسراره معه إلى القبر ….

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى