فكر

اللغة بوصفها إحدى أخطر مغذيات الوهم

قراءة في كتاب منابع سلطة الوهم للشاعر (جمال جاسم أمين)

د. أمل سلمان

أكاديمية وناقدة عراقية – بغداد

     بدءًا يصعب التصديق بأن تكون اللغة التي نتحدث بها واحدة من اخطر مغذيات الوهم الذي أفسد الطريق على أجيال هدرت فرصتها في الحياة لا لشيء سوى ثقافات منحرفة يقودها منحرفون برعاية ما!!

      كيف نتج هذا؟ ومتى؟ كيف تغوّلت اللغة بوصفها أداة للفكر حتى ابتلعت الفكر كله؟! هذه الأسئلة المعرفية وغيرها يحاول المفكّر العراقي والناقد الشاعر، جمال جاسم أمين توضيحها من خلال تتبعه منابع الوهم ومغذياته في كتابه الاخير الصادر عن دار وتريات للطباعة والنشر في بابل الذي وسمه بـ(منابع سلطة الوهم)، سنحاول في هذا المقال تسلّيط الضوء على اللغة تحديدا، التي أضحت إحدى أخطر مشاكل العقل العربي، ذلك العقل الذي اتخم بلاغة وفصاحة ومقولات لا واقع لها! فهناك عيب نسقي في هذه اللغة  عمل الكاتب على تشخيصه ووضع إصبعه عليه.

بداية يُعرف الوهم على أنَّه تشوُّه يحدث للحواس ويكشف كيف يُنظم الدماغ ويفسّر الإثارة الحسيّة، فهو لغة الظني والخداع الحسي وكل ما هو غير مطابق للواقع.

وللأوهام سلّطة على البشر تفوق أحيانا سُلطة المقدس، وحين توظف سياسيا يصبح خطرها أشد فتكا  من المخاطر النووية؛ ذلك أنّها تخلق صورة نمطية سلبية للغاية وتوفر عِتادا ثقافيا لعملية صناعة العدو، والأخطر من كل ذلك أن تُوظف الأوهام المُتخيلة عن طائفة ما أو أقلية ما أو عن شعب ما لتبرير حروب أهلية ونزعات دموية، ولنا في التأريخ العبر الكثيرة إذ يحدثنا عن حروب طاحنة كثيرة خاضها بنو البشر ضد بعضهم استنادا إلى مجرد أوهام يتصورها المحاربون  حقيقة مقدسة وهم لا يشعرون وإذا أصاب مجموعة من الأشخاص سمي عقيدة”؛ فكيف تسلّح هذا الوهم حتى صار عقائد ومؤسسات ورموز لاهوتية واجتماعية تلعب دورا في إعاقة عجلة التقدم؟ وما هو دور اللغة في ذلك؟

        من المتعارف عليه أن الأمة العربية دخلت التأريخ من طريق الكلام المقدس أي القرآن وهذا ما يشير إليه الكاتب جورج حنين في كتابه (مقدمة في الشعر العربي)، ومن هنا ولدتْ إشكالية أن تكون الفصاحة الشّكلية بديلا عن الممارسة في العمل، بمعنى أن الشرط البلاغي عند العرب ساعدهم على تجاوز شرطهم المعاشي الواقعي، وصارت المقولات البليغة والمتقنة جماليا بديلا عن واقعهم المغبر والتالف، بل “نسوا الواقع لكيلا يهتموا إلا ببهرجة الكلام”، فأصبح العالم بنظرهم يميل إلى أن يكون ثرثرة فارغة، وبالنتيجة وجدنا أنفسنا إزاء كائنات خرافية كلامية وهذيانية لا واقعية بل” يتملقون الواقع من طريق عدم استخدامه على الإطلاق” ويعوضونه بالكلام، الكلام لا غير!

         البلاغة أو الوهم وحده، أمّة تعيش في المقولات التي صارت بديلا عن كل واقع!؛ فالدراسات البلاغية والنحوية صارت هي الفكر، لغة تتحدث عن نفسها بإفراط لا عن شيء أو (واقع) خارجها، أداة تتسع نحوا وصرفا ولاشيء تؤديه غير فذلكاتها اللغوية والبلاغية ذاتها، فالمعنى يقود إلى معنى المعنى في رحلة تأويل عذبة بل ملهاة ومؤانسة عقدت لها المجالس وطابت لها النفوس.

       وبالمقابل يضرب الكاتب  في سبيل المقارنة  مثالا بالعقل الياباني، إذ يرى أنّه عقل عابر للكلامي، عقل مادي ملموس لا يعرف لغته التأويل ولا المجاز مطلقا بل لا يرى في الشيء إلا الشيء نفسه، بمعنى أن لغة الياباني لغة حقيقية، لغة معنى مباشر بلا تأويلات، وربُّما هنا يكمن السرّ في نهضة اليابان العجيبة بهذه السرعة ونهوضها من الرّماد. فاللّغة العربية لّغة مجاز والعرب شُغفت في المجاز لميلها إلى الإتساع في الكلام، أمّة إطناب وتوسع وتدفق،  أمة خطابة والخطابة تتوخى الاعتداء على قناعة الآخر بحشو قناعات جديدة بدلا عن أفكاره الشخصية وهذه مهمة أيديولوجية لامعرفية بل هي تستعمل  اللّغة والبلاغة لهذه المقاصد.

      هذا الاتساع في الكلام ينهض على ركام ضمور الواقع والتجربة العملية للحياة والناس، فالناس هنا تتحدث كثيرا ولا تفعل إلا القليل بل أحيانا لا تفعل بالمرة! فحياتنا تتزين وتحلو كلاما لكنها في حقيقتها تخفق واقعا، حياة نحياها في ظل هذيان لغوي بلاغي جميل يقابله واقع قبيح، ومن ثم وجدنا أنفسنا نقف بين ضياعين، ضياع (معنى) لغوي مباشر واقعي وعملي أكله المجاز فتلاشى في زحمة (معنى المعنى) بعد أن أدمنت الأمة الإتساع في القول وتقليب الفكرة عرضا وطولا، يقابله ضياع (الحقيقة) المعرفية التي اندست في تلافيفها مقصديات أيديولوجية ومؤسساتية ومصالح على مر الأزمنة حتى صارت مستودعا للأقنعة وأشباح المعنى وضلالاته.

         وتعلمنا من هذه اللغة كيف ندحض حقيقة الحاضر الحية بوهم الماضي المنسوج من خيالاتنا الايديولوجية النفعية حتى سادت ثقافة تمجيد الماضي الاسطوري والثقة بمروياته على حساب المشهود الحي، أصبحنا مهرة في إحلال الوهمي محل الفعلي أو الحقيقي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى