سيكولوجيا الإلحاد !
بقلم: د. محمد السيد السّكي
استشاري تحاليل طبية وأديب مصري
ينفر عقله من تقبل فكرة وجود عوالم ماوراء الطبيعة التي يعجز إدراكه لمحدودية حواسه من إدراكها.. يتباهى بأنه صاحب منطق لا يؤمن الا بالتجربة وما تراه حواسه وتشاهده عينه عبر أجهزة القياس.. يقول نحن تكونا عبر ملايين السنين نتيجة غبار النجوم الذي تكثف وتركز مكونا الذرات فالجزئيات فاول حمض اميني ثم البروتين ثم الخلية ثم الانسان الذي تطور عبر ملايين السنين عبر سلسلة من المخلوقات.. منطقه حبيس المادية يجعله لا يؤمن بكل مظاهر العوالم الخفية عن الحواس.. فكرة الإله الخالق عنده مرفوضة لانه لا يراه ولا يسمعه ويتصور انه مجرد فكرة نسجها عقل الإنسان.. هو يريد التحرر من قيود فكرة الألوهية لان الإله في نظره عقبة يجد من خلالها القيود و الضوابط..
هو ليس منطق ينأى بعيدا عن أي فكرة تفترض وجود عالم خفي خارج عن منظومة الزمكان فحسب وإنما هي نفس متمردة تريد التلذذ بكل ماتشتهيه.. وإذ أن الحرية المنضبطة تقتضي منك وجوب احترام حرية غيرك فان هؤلاء الملاحدة يريدون ان تنضم لركبهم لكي لا تتشدق بحقك في اعتقاد ماتشاء و لا تنادي بحريتك.. مزاج نفسي منحرف يقود عقل ضيق لا يرى الا ما هو امامه ولا يفترض ولو افتراضا جدليا بإمكانية وجود ما لا نراه ولا نقيس حركته و لا نحدد تموضعه..
عقله مكبّل بما تدفعه اليه شهواته التي تريد ان لا تمشي وفق ضوابط مجتمعية و الحل عنده هو مشاركة جميع الناس لفكره واللهث لاشباع الشهوات مثله فتصبح المجتمع له عقد مشترك لا يقيد حصوله على شهواته.. ولو افترضنا جدلا ان ذلك تحقق وصرنا في مجتمع يشرب أصحابه الخمر في الشوارع فيسكرون ويبولون على بعضهم البعض بل ويمارسون الشذوذ باعتباره حق إنساني كما يتصورون..
لن أحدثك عن نجاسة ما نراه من مشهد قبيح ولكن أين حق الانسان في الفكر الاخر و حريته في اي ان يلتزم بضوابط حتى وإن سلمنا جدلا انها من اختراعه باعتبار ان هؤلاء يروجون لفكرة صناعة الإله الذهنية وما استتبعها من فكرة وجود الاديان..
هو صنع ضوابط تجعله أكثر تحررا وثورة على ملذات نفسه.. هو تصور وجود اله لن يخسر ابدا في “صناعة فكرته” لانه سيحرره ويجعل لحياته العبثية معنى.. هو صنع فكرة تجعله خالدا لا يشقيه فراق حبيب او يحزنه عجز او مرض وجد جيناته الوراثية سببا له.. هو تصور شيئا سيحنو عليه و يجعل له حياة أخرى تجبر كسره الذي تسبب فيه نتيجة أخطائه.. هو صنع الفرصة الثانية والحياة الأخرى.. اليس من حقه ان يهفو للعيش..
ماذنب ذلك القلب الرقيق الذي ينجذب للجمال و يتحرك ويتمايل امام نداء الحب و ذبذبة لحن جميل يحرك نفسه ويجعلها تجوب معه عوالم الخيال.. أحرام عليه انه يشعر ويكون صاحب قلب رقيق وخيال يداعب الوجود؟! أليس من حقه أن يشعر بالدفء والحنين لطاقة غير مادية تجعله يلهث وراءها وهي منبع نفسه..
يشكّل المؤمنون معضلة نفسية للمنكرين بوجود الله لأنهم يمثلون حجر عثرة يقيّد حريتهم العبثية المادية القبيحة.. يروجون بأنهم حملة لواء الحرية والإنسانية وهذا وهم..أنا المؤمن لن اجبرك ان تتخلى عن أفكارك ولكن اسمح لي بأن أعتقد ما أشاء..
ارتقِ بنفسك وتمرد على ملذاتك وكن راقيا ولا تقلل من شأن إنسان يؤمن بأن له نفس لن تستطيع مهما بلغت من العلم تفسيرها و معرفة أسرارها.. فسرْ لي لماذا الحزن والفرح والسعادة والضيق بعيدا عن ادبيات دينية تقول لنا انها من عند الخالق العظيم.. أليس من حقي ان استجيب لذلك الصوت الذي تميل اليه أذن نفسي و تخر راكعة لحمده؟ ..
أنا اراه في كل شئ واسمعه في كل صوت و اراه في زهرة جميلة تتفتح وحركة جرم سماوي يؤثر عليك فيحزنك.. اراه في تجبر ظالم وانين مظلوم.. اراه في الكون الناقص وفي جسدك العليل وفي فلسفة الموت والحياة والهدم والبناء التي لا يستطيع أن تتمرد عليها عمليات جسدك الكيموحيوية.. اراه في شغفك لكي تبقى.. اراه في اللهث في طلب الحياة لا الموت..
رحم الله الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر حينما قال: “من لم تهزه الأشعار على أنغام الأوتار تحت ظلال الأشجار فوق ضفاف الأنهار فهو جلف حمار”.. ما ذنبي ان نفسك لا تتحرك لجميل البيان او لعذب الأنغام و الجمال المجردين من تحريك شهواتك.. أنت تميل للجمال الذي يحرك شهواتك والنغم الذي يجعلك تتمايل وتهتز لا ان تتذوق انفاس بديع الله في كل دقائق كونك المتذبذب.. نحن نحب كل جميل لان منبعه الله الجميل.. أليس من حقي ان احب وان اطيع محبوبي الذي خلقني وصورني في أحسن صورة.. اليس من حقي ان انفذ دستوره وعقده الاجتماعي المستنير الذي جعله في صالحي انا والمجتمع دون تفرقة..
أراك تقول: أنا اعطف على الحيوان و ارحمه.. وأراني اقول : انت تعطف على الحيوان لأنه لا يشكّل منافسة لك مثلما يفعل أخيك الإنسان والذي ترفض ان تساعده في توفير لقمة عيش وتضن عليه بلحظة أمن وسلام دونما ان تسلب منه راحته و موارده و ثروات ارضه التي هي من خلق الله.. المحرك الجوهري لك دائما هو مدى الاستفادة المادية وتحقيق اللذة الحسية بعيدا عن عالم ماوراء المادة.. لم يكن الشيطان عاصيا لتحقيق ملذة وإنما كان حاقدا غيورا لسلب المكرمة منه بتفضيلك عليه.. ستقول ان الشيطان من تصورنا وانني لا اكذب او اتجبر و ان هذا التصور لم يؤثر علي.. فلتعش حياتك كما تشاء ولتجعل الذين يؤمنون بأنه يوجد خالق لذلك الوجود أيضا يعيشون ويؤمنون بأنه ربهم ارسل الأنبياء والمرسلين لتذكير البشر به.. أن اعيش لحظة واحدة وانا متوهم وجود الإله كما تعتقدون خير لي من الف عام بدون ذلك..
ما الذي اخسره بوهمي هذا – كما تعتقدون.. إن وجدت الإله حقا كما تصورته فانا فائز وان لم اجده لم اخسر شئ اللهم إلا انتصاري على ملذاتي و ارتقاء جانبي غير محسوس والتزامي بضوابط جلها احترام الانسان و الاعلاء من قيمته واتمام مكارم الأخلاق.. لن أقول لك اني املك من الأدلة ما يجعلني استشعر الإله في موجات الجاذبية وفي حديث الجسيمات دون ذرية وفي فلسفة التفاعلات الكيميائية بداخل جسدك.. لن اجادلك ولكن فلتجعلني اعتقد ما أشاء..
يتباهى ريتشارد دوكينز بأنه عرّاب الالحاد الاكبر وبانه لا يتزعزع معتقده امام كتاب الكون الناطق بمجد الله وكينونته في كل همسة من الذرة الى البروتين الي المجرة.. فالملحدون الذين لم يستطيعوا تجاوز بديع الصنعة الالهية وأعلنوا وجود الله يصفهم دوكينز بانهم ملحدون ربوبيون إذ انهم آمنوا بالله دون الإيمان بكتبه ورسله بل وانه يطلق على ألحادهم “الحاد الجبناء”.. إنه هروب من الامتثال للنواهي التي تكبح الغرق في ظلمات الشهوات و استدلال بديهي ومنطقي لله الخالق من خلال النظر للكون و بديع صنعته..
التجربة الحياتية تكشف لنا ان القدرات العقلية ليست بالضرورة كفيلة لكي يتمتع الانسان بقدر من المدد الروحي الذي يجعل المرء في حالة سمو و رقي وهدى وصلة برب الموجودات الحق القدير.. فلسفة بيولوجيا بول ديفز الذي تتدفق عبر مخطوطاته صفحات إيمانية تحكي عن المصمم الخالق البديع تجدها على النقيض من فلسفة بيولوجيا ريتشارد دوكينز المروجة للالحاد..
فلسفة فيزياء ستيفن هوكنج شتان بينها وبين تأملات روجر بنروز..
فليس كل عبقري بالضرورة أن يؤيد بالروح التي تجعله يحظى بمستقبلات لعوالم ماوراء الطبيعة فلا ينفصل عنها و يعيش منغمسا بالكلية في عوالم المادة وقوانينها المحدودة. وسيبقى المؤمنون ويبقى المنكرون وعبر التوتر السطحي لموائع التجربة الحياتية تتجلى صفات الله القدوس و تشرق لنا شمس عدم التدخل الالهي الذي يجعل اهل مستقبلات الروح فقط هم الذين يرتعون في نور اشراقة الإيمان به..