فكر

تحوُّل الثقافة المتزنة إلى ثقافة رخوة

بقلم : عماد خالد رحمة ـ برلين

لم يتوقف الحديث عن الحداثة وما بعد الحداثة، فقد أخذ السجال والجدال مساحةً واسعة بين أوساط الفلاسفة والمفكرين والباحثين وعلماء الاجتماع ، مما حدا بعالم الاجتماع البولندي (زيغمونت باومان Zygmunt Bauman) أن يضع كتاباً هاماً بعنوان : (الثقافة السائلة) تناول فيه مفاهيم مختلفة ومتنوعة تحت مظلة ما بعد الحداثة ، أو ما يطلق عليه اسم (الحداثة السائلة Liquid modernity) . فقد قدَّم زيغمونت باومان قراءة في بنية الثقافة الصلبة والذي اعتبر الحداثة مرحلة الصلابة ، وما بعد الحداثة مرحلة السيولة ، وفي هذا المعنى نجد أنّ سيغموند باومان عَمَلَ على تحويل الحداثة من الحالة الصلبة ألى الحالة السائلة أي (إلى ما بعد الحداثة) ما يعني أنَّ العمل المستمر للإنسان والسعي الدائم إلى التحديث الزائد والمكثَّف عن اللازم هو ضرورة ، والذي أفضى في النهاية إلى عدم قدرة أي من أشكال الحياة الاجتماعية المتنوعة والمتتالية بأن تحتفظ بشكلها زمناً طويلاً قدر الإمكان ، تماماً مثل المواد السائلة الموجودة في الطبيعة . ونتيجة لحالة التطوّر المستمرة والبحث الدائم عن مدلول الحداثة ومكانة الثقافة التي بدأت تتحوّل بتحوّل الحداثة من (مرحلة الصلابة) إلى (مرحلة السيولة) ما دفع لإيجاد مصطلح الحداثة بمعناه الجديد : (الحداثة السائلةLiquid modernity ) للدلالة على الوضع الحالي الحديث الذي يطلق عليه العديد من المفكرين والمثقفين (ما بعد الحداثة Post modernity) أو الحداثة الماضية . وبتعبير أدق (الحداثة المتأخرة (Late modernity ، أو)الحداثة العلياHyper modernity) أو (الحداثة الثانيةSecond modernity) .فقد شهد العالم ظهور العولمة وانتشارها ، وهو ما أدّى إلى التمركز حول التجارة والسوق والبحث عن السلع وازدياد النزعة الاستهلاكية وطغيان فلسفة الفردانية . وهذا ما دعى إلى العودة للبحث عن تاريخية مفهوم الثقافة ، فقد دعت الثقافة الصلبة إلى وضع الأمة ـ الدولة في مركز الوجود ، كما دعت الثقافة الصلبة إلى فصل الدين عن الدولة . في محاولة منها لتأكيد مركزية الإنسان في صنع وتكوين هذا العالم ، مؤمنةً إيماناً مطلقاً بأنَّ الحضارة الإنسانية هي نتاج الروح والمادة والتفكير والفعل والانتاج ، فهي ليست ثقافة مادية خالصة ، بل هي دين جديد بديل يؤمن بقدرة الإنسان على التضحية ، ليس في سبيل الله ، بل في سبيل تقدّم وتطوّر العلوم والمعارف وبسط سلطان العقل على مكونات الطبيعة الهادرة . من هنا أدّت الثقافة دورها في تعزيز فكرة التقدم والتطور والتحديث الذي يتحقق بمركزية الإنسان دون غيره من المخلوقات كونه يحقق مركزية الدولة والإنسان الفاعل المنتج ،وكونه يؤمن بالتعليم المدني الإنساني الخاص .هذا الإيمان القوي بمشاريع التنوير الذي من هذا النوع مرّ بتحولاتٍ كبيرةٍ وهامّة خلال العقود الأربعة الماضية التي شهدت ظهور العولمة وتجلياتها في العالم ، والتي أكّدت على التمركز حول النزعة الاستهلاكية وانتشار النزعة الفردية ،والتمركز حول السوق ، وانسحاب الدولة من إنجاز مهمتها الاقتصادية والثقافية والاجتماعية ، كل هذا مهَّد الطريق إلى انتقال الثقافة من مرحلة الصلابة إلى مرحلة السيولة .
لقد أكَّد عالم الاجتماع البريطاني (جون غولدثورب (John Goldthorpe من خلال بحثه الهام على رصد حالة الثقافة وماهيتها ، فقد شكّل فريقاً بحثياً متخصصاً من جامعة أكسفورد لرصد حالة الثقافة في بعض دول العالم ، مؤكداً أنّه لم يعد من الممكن تمييز النخبة الثقافية من غيرها من النخب مثل النخب التي كانت في الماضي. وكان عالم النفس الأمريكي (ريتشارد إل بيترسون (Richard L. Peterson‏ ، قد قدَّم بحثاً خاصاً رأى فيه أنَّ السياسة النخبوية الجماعية تحوّلت من أصحاب الثقافة الذين يستهزؤون ويحتقرون كل سوقيّ أو وضيع إلى أصحاب الثقافة الذين يستهلكون كل شيء في شرهٍ واضح. كما قدّم عالم الاجتماع الفرنسي (بيير بورديو Pierre Bourdieu) تحليلاً دقيقاً وضع الثقافة في المرحلة التي كانت تحاول المحافظة على متانتها وتوازنها قبل أن تفقد مكانتها وأهميتها ودورها وتتحوَّل إلى مرحلة السيولة.فقد عُرِفَت الثقافة السائلة بتبنيها لسياسة الإغراء بدلاً من التنوير والتطوير والارتقاء بالنفس إلى مراحل سامية . وأن تكون حراكاً ونشاطاً مفتوحاً لا يحدّه حد ، بهدف ألا تشبع الحاجات القائمة بل أن تبقى في خلقٍ متواصل للحاجات الضرورية ، لكي تمنع الإنسان من الوصول إلى الإحساس بالإشباع الذاتي ، أو الإحساس بالرضا عن النفس .فالإحساس بالإشباع الذاتي يتطلب توفير حاجات الهوية السائلة المشبعة بالموضة والممتلئة بيوتوبيا العصر . هنا نجد الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني (جورج زيمل Georg Simmel ) الذي قدَّمَ رؤيته الخاصة عن الموضة يقول : (لا تبقى الموضة دائماً على حالها ،لكنها في حالة صيرورة وسيرورة دائمة) وهذا يدلِّل على كونها حركة مستمرة ، فهي عملية تستمد حركيتها واستمراريتها من داخلها ، وتستجمع كامل الطاقة التي تستهلكها في الوقت نفسه .لأنَّ الإنسان يركن إلى الموضة بحثًا وطلباً للأمان والطمأنينة ، فهو وإن كان كائناً دائم البحث عن الأصالة والفردية ، فهو يحتاج بشكلٍ دائم إلى الدعم الاجتماعي والتماثل مع أفراد المجتمع، وألا يشعر بأنه مختلف بشكلٍ يؤدي به إلى الشعور بالعزلة والوحدة، متفقاً في ذلك مع ما ذكره عالم الاجتماع الالماني (جورج زيملGeorg Simmel) ، بأن الموضة حلٌ وسط بين نزعة المساواة الاجتماعية في الإنسان ونزعة الانفصال .
في حالة التغيير من الصيرورة وعبر السيرورة التي تفرضها السلوكات العامة على الأشياء، تجد كل شيء في تقدم سريع فجّ وغير مدروس ، وكأنه مقحم قسراً، لتحطّ من قدر كل شيء تخلفه وراءها، وتجعل الفرد يتبنى كل يوم وأفكاراً جديدة ويتخلى عن ما سبق من أفكار كما يتبنى توجهات وإرشادات تختلف عن الأمس القريب، وفكرة التقدم والتطور والتحديث هذه لا تعني التحسين المشترك للحياة الحرَّة الكريمة ، وإنما تعزز خطاب البقاء الشخصي المتعلّقة بــ (الأنا) . لذا فإن ما أقدم عليه عالم الاجتماع البولندي (زيغمونت باومانZygmunt Bauman)، يلخص فكرة التقدم والموضة في أنَّه : (إذا أردت أن تنجو من الغرق المحتّم فعليك الاستمرار في ركوب الأمواج بكامل إرادتك وقوتك).
لقد طغت فكرة السوق والسلعة على جميع أفكار ومفاهيم الناس ومنها الثقافة التي تم الحديث عنها كسلعة والتي يجب عليها أن تلبي السوق الاقتصادية الاستهلاكية ، لذا فقد تم تمكين الثقافة من الرضوخ إلى منطق الحداثة (الموضة) كي يثبت الفرد وجوده الكلي أو الجزئي . لذا عليه أن يثبت قدرته على يكون متلوناً كالحرباء ، ويغير جلده حسب مصالحه .
إنَّ البحث المستمر عن (الأنا) هو حالة متأصّلة في الإنسان ، فهو يدرك تمام الإدراك أنَّ الحداثة السائلة لا تكمن في إيجاد مسكن سعيد للعيش وهو دائم البحث عن سعادة دائمة آمنة في تغيير هويته وجلده مراراً وتكراراً ، منهياً بذلك حالة الوتوبيا التي صنعته الحداثة الصلبة ، حالماً بالحياة السعيدة الرغيدة وبالعيش بفردوس النعيم . من هنا تم التأكيد على أنَّ الثقافة السائلة في حالةٍ صيدٍ دائم للشهوات والملذات. التي وضعت خطةً محكمة تهدف إلى عدم وصول الأشخاص في نهاية المطاف إلى الصيد الثمين حسب التصورات ، وإنما إلى حالة الغرق المحتومة في النهاية .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى