تنوع الثقافات ضرورة إنسانية وحضارية
بقلم: عفاف عمورة ـ برلين
يحتفلُ العالم يوم الواحد والعشرين من أيار باليوم العالمي للتنوع الثقافي من أجل الحوار والتنمية، الذي أعلنته الأمم المتحدة. هذا اليوم الذي نؤكد فيه على أنَّ التنوّعَ الثقافي يُشكِّلُ قوةً كبيرةً ومحركةً للتنميةِ على كافةِ الأصعدةِ الاقتصاديةِ والسياسيةِ، ليكونَ وسيلةً للعيش الرغيد في ظلِّ حياةٍ فكريةٍ وعاطفيةٍ ومعنويةٍ وروحيةٍ، تكونُ أكثرَ اكتمالاً، وهو ما نصَّت عليهِ القوانينَ والقراراتِ والتشريعاتِ الدوليةِ التي تنظم مجالَ التراثِ الثقافيّ والمعرفي، التي تُتيحُ ركيزةً متينةُ وصَلبة لتعزيزِ التنوعِ الثقافي . لكن حينَ نراجعُ الآراءَ والمفاهيمَ الأكثرَ شيوعاً وانتشاراً للتعدديةِ في ثقافتنا العربيةِ ، نجدُ انها تعاني خللاً ما في تعريفاتها، في سياقاتٍ متنوعةٍ ومختلفةٍ ، تصلُ في كثيرٍ من الأحيانِ حدَّ التناقضِ .
من هنا فالدلالةُ السائدةُ للتعدديةِ بقيت في نطاقٍ سياسيٍّ فقط ، وكأنها حِكرٌ على الأحزابِ والتياراتِ الفكريةِ. لكنَّ الدلالةَ الحضاريةَ للتعدديةِ الثقافيةِ تكونُ أبعدَ وأغنى من ذلك بكثير. فهي تعبيرٌ واضحٌ وصريحٌ عن قدرةِ ثقافةٍ ما على تحويلِ الاختلافِ والتناقضِ إلى غنىً، شرطَ أن تكونَ لهذهِ الثقافةَ قدرةٌ على إعادةِ إنتاجِ ما يُستفادُ منه، وكأنهُ نابعٌ من صميمها، والحضارةُ العربيةُ بكلِّ ما تحتويهِ من غنىً وثراء، كانت التعددية فيها من أبرزِ امتيازاتها في مختلفِ مراحلِ سيرورتها وتطورها، وكانت حواضرها المنتشرةُ على كافةِ الأرضِ العربيةِ جاذبةً للمواهبِ والمبدعينَ وأصحابُ الخبراتِ، وكَتَبَ بالأبجديةِ شعراءٌ وأدباءٌ ومفكرينَ ومبدعينَ وفلاسفةً قادمونَ من لغاتٍ وثقافاتٍ أخرى، ومنهم من أغناها وأضاف إليها الكثير .
إنَّ عنوانَ التنوعِ الثقافي من أجلِ الحوارِ والتنميةِ، يُحيلُ إلى العديدِ من القيمِ المتداخلةَ مع بعضها البعض، وذلكَ لأنَّ مفهومَ التنوِّعِ والتعدًّدِ مُلتبسٌ . مرّةً يدلُّ على التعدُّدِ ، ومرّةً يُحيلُ إلى الاختلافِ والتمايزِ . مما يفرضُ مزيداً منَ التساؤلاتِ حولَ هل يرتبط العرقُ أم التراثُ أم اللغةِ أم ثقافاتٍ مهدَّدةٍ بالتراجعِ والانقراض ؟ أم انهُ يعبِّر عن ضرورةِ التعايشِ بين ثقافاتٍ هامشيةٍ، وأخرى ثقافاتٍ مركزيةٍ مسيطرةٍ . وهنا نتساءلُ في هذا اليوم الذي أقرّتهُ الأممُ المتحدةُ عن نوعيةِ العلاقةِ بينَ تلكَ الثقافاتِ ، هل هي علاقةُ انسجامٍ وتصالحَ ،أم تضادٍ وتصارُع ، أم تنافر وعدم انسجام؟ والأهم من كلِّ ذلك هو الاحتفالُ الأمميُّ على مستوى ثقافاتِ العالمِ أجمع، أم أنَّ تلكَ الثقافاتِ لها خصوصيتها القومية وبوسعِها الحوارُ الذاتي مع الثقافاتِ الفرعيةِ والمحليةِ التي تتكوّن منها ؟
ونحن إذ نعيشُ في ألمانيا في قلب الغرب الأوروبي، يمكننا من خلالِ امتلاكنا لناصيةِ الثقافةِ العربية الغنية الثرّةِ ، وما تتميزُ به ثقافتنا العربية من التنوع والتعدُّدِ على كافةِ الأصعدةِ، يمكننا أن نتواشج مع ثقافاتِ الغرب المتنوعة، على الرغمِ من انَّ ثقافتنا العربية كلاسيكيةً في مجالات عدّة، وحداثوية في مجالاتٍ وسياقاتٍ أخرى. ويمكننا أنْ نمزجَ بينهما في الأفكارِ والسلوكِ ورؤية العالمِ بعيونٍ إنسانيةٍ وحضاريةٍ. على الرغمِ من تنوّعِ الثقافاتِ العربيةِ التي تتداخلُ فيها اللهجاتُ والاقلياتُ والطوائفُ. فنحنُ ندعوا إلى التمسُّكِ بهويتنا العربية، وبقيم الذات العربيةِ، ونؤمنُ بالانفتاحِ على الآخرينَ . لكنْ نتيجةَ ما مرَّ على وطننا العربي ،وعلى شعبنا العربي من مآسٍ وحروب، تركتنا نعيشُ التنوعَ الثقافيَّ على المستوى الأفقي الاجتماعي، وعلى المستوى العمودي التاريخي، وعلى المستوى الثقافي والإنساني والحضاري .
كل ما نرجوه أن يؤدّي الحوارُ الثقافي إلى الإبداعِ والابتكار، ومن ثم التنميةِ المنشودةِ التي أكّدتها الأمم المتحدة في هذا اليوم . وأن نكونَ قادرينَ على تغييرِ الصور النمطيةِ التي ألصِقت بنا، على اعتبار أنَّ ثقافتنا العربيةَ كثيراً ما تمَّ تصويرها على أنّها ثقافةٌ أحاديةٌ تفتقرُ إلى التنوعِ ، وأنها ثقافةٌ ذاتُ مسارٍ واحد ، واتجاهٍ واحد. فقد تمَّ تصويرُ ثقافتنا العربية مع انتشارِ الإرهابِ إلى ثقافةٍ رافضةٍ للآخر، وكارهةً للحياةِ، ولا تعرفَ التعايشَ أو معنى الحوار. لكننا نقولُ بصوتٍ عالٍ، إننا نملكُ القدرةَ على الانخراطِ في العالم ، وأن نتشاركَ معهُ في كلِّ تفاصيلِ الحياةِ الإنسانيةِ والحضاريةِ بوصفنا جزء هام من العالم .