الرّمزيّة الممزوجة بالفلسفة في فيلم “طّفيلي” الكوري الجنوبي

فيروز بشير شريف | الجزائر

تعتمد بعض الكائنات الحيّة الطّفيليّة,والتي لا يمكن أن ترى بالعين المجرّدة على التطفّل كأسلوب حياة،وتبحث عن حل للنّقص الّذي تعاني منه من خلال الاعتماد على أطراف أخرى توفّر لها ما تحتاجه بطريقة متطفّلة.الطفيليات لكي تعيش و تستمر،عليها أن تتغذّى على الطرف الآخر الّذي يدعى العائل أو المضيف.كما أنّ الكائن الحيّ الطّفيليّ،قد يتطفّل على مضيف أو عائل واحد،وقد يحدث أن يتطفّل على أكثر من مضيف.العائل أو المضيف هو الآخر،قد يحتاج لوجود ذلك الكائن الحي الطّفيليّ،وبالتّالي فيه حالات يرحب فيها العائل أو المضيف بالطّفيليّات،لكن يتوقّف ذلك على حسب نوع تلك الطّفيليّات،والخدمات الّتي تقدّمها في المقابل.

الكائن الحيّ الطّفيليّ ،غالبا لا مصلحة له من القضاء السّريع على عائله،لكن ذلك لا يعني أيضا بأنّه سيكون دائما في خدمة المعيل أو المضيف،ففي حالات معيّنة قد يكون سبب هلاك هذا الأخير.

الكائن الحيّ الطّفيلي عليه التخفّي باستمرار، ليستفيد أكثر. فظهوره للعلن بحقيقته قد يدفع مضيفه أو عائله إلى التّفكير بالتّخلّص منه.

ما ذكرته يلخّص ما جاء في فيلم “طفيلي” الكوري الجنوبي  لمخرجه “بونج جون-هو”،ويمكن لمن لم يشاهد الفيلم بعد،وبقليل من التّركيز  أن يكوّن صورة عن أحداث الفيلم ومحتواه.

الفيلم صوّر وبطريقة بديعة حياة الإنسان المعاصر،الذي تعتبره أغلب الفلسفات المعاصرة مركز العالم،لكنّه في ظلّ بعض الأنظمة الرّأسمالية المتغوّلة و المتعجرفة،يجد نفسه أسيرا ومقيّدا لقوى ظلاميّة تستنزف طاقاته،وتسخّره بطريقة بشعة لخدمة مصالحها،الأمر الّذي قد يدفع بالكثيرين  إلى التوقّف عن  التّفكير في مسألة الارتقاء بكينونتهم،مستسلمين بذلك للواقع المعيش الّذي وجدوا أنفسهم محصورين فيه.

بعد مشاهدتك لفيلم “طفيلي” سينتابك شعور غريب مفاده ما يلي:”أنت مشوّش،لن تستطيع إطلاق أيّ حكم على الفيلم.ما عليك إلّا إعادة مشاهدته مرّة أخرى.”

الفيلم و إن كانت فيه مشاهد كثيرة تدفع بالكثيرين إلى إفلات كم معتبر من الابتسامات،إلّا أنّ الحس الفكاهي فيه مربك جدّا،.كوميديا سوداء تعرّي أوجاع الإنسان المعاصر،وانهيار القيم الأخلاقيّة في عالمه.

“بونج جون-هو” وهو  يسرد أحدا الفيلم، من خلال الرّمزيّة المرئيّة الباهرة الّتي وظّفها،

والّتي كانت مباشرة تارة بالمعنى  القريب الّتي تحمله،ومبهمة تارة أخرى بالمعنى البعيد،سيجعلك حتما تطرح السّؤال الآتي على نفسك”كيف استطاع هذا الرّجل تقديم كل ذلك؟”

عائلة “كيم” كما قدّمها لنا “بونج جون-هو”،عائلة فقيرة جدّا،تسكن في قبو تحت الأرض يطل من خلال نافذة على شارع تسيطر على أهله  مظاهر البؤس والفقر.

الفيلم يعالج موضوع الطّبقيّة من أوّل لقطة فيه من خلال التّصوير،الّذي ركّز على الأسفل و الأعلى  وفي ذلك دلالات معيّنة.لتنطلق أحداث الفيلم بعدها بمحاولة الابن التقاط شبكة “الواي فاي” من جارته الّتي وصفها بالمجنونة لمجرّد اكتشافه بأنّها غيّرت كلمة السّر،وبالتّالي لن يكون باستطاعته لا هو و لا أفراد عائلته التطفّل مجدّدا عليها،والاستفادة من شبكة “الواي فاي” الخاصّة بها دون علمها.

أحداث الفيلم تبدأ بالتّصاعد بعد زيارة الصّديق “مين”،للابن  “كي- وو” في القبو الّذي يسكن فيه برفقة أفراد أسرته،وإهدائه صخرة أثريّة تعتبر فأل خير على كل من يمتلكها،بحيث تجعله كما أخبره هذا الأخير ثريّا بمجرّد امتلاكها.تلك الصّخرة الأثريّة هي الأخرى تجسّد من خلال شكلها، الفكرة الّتي  يطرحها الفيلم،وفلسفة العبيد و الأسياد،والأعلى و الأدنى،والقاع،والقمّة..إلخ

لكن السّؤال هنا:هل كان “مين” صادقا فعلا فيما  قاله بشأن تلك الصّخرة الأثريّة؟وهل ستتخلّص عائلة “كيم” وابنها”كي- وو” من البؤس الّذي كانوا يغرقون فيه؟

لن أحرق أحداث الفيلم،ولن أذكر كيف تمّ اللّقاء ثمّ الرّبط بين من كانوا في القاع ومن كانوا في الأعلى،لكن سأكتفي بالإشارة إلى عائلة “كيم” الّتي  انتقلت بعد فترة وجيزة إلى بيت فخم وواسع، يدلّ على المستوى الرّفيع لمالكيه،يطلّ على المدينة ما فيها.وهنا تجدر الإشارة إلى الحركيّة بين الأعلى و الأسفل الّتي سيطرت على تصوير أحداث الفيلم،بشكل لافت و مبهر،كما تمّ مزج ذلك بإيحاءات ورموز تعبّر تارة عن المعنى المراد،وتارة أخرى تشير إليه.

منزل عائلة السّيد “بارك”،منزل يعرف ساكنوه جيّدا حدودهم،وأيضا الحدود الّتي يجب أن يتوقّف عندها الأغيار.منزل كل شيء فيه مدروس و بقدر،بما في ذلك صعود السّلالم.فليس كل من يصعدون سلالمه،سيبقون في الأعلى،هناك من مقدّر لهم أن يعودوا إلى الأسفل كلما صعدوا،وما صعودهم تلك السّلالم الّتي فيه، إلّا لتذكيرهم بالأسفل الّذي ينتمون إليه.

من بين المشاهد الرّائعة و المؤثّرة،والأكثر عبثيّة على الإطلاق،والّتي لن أستطيع منع نفسي من الحديث عنها،حتّى وإن كان في ذلك حرق للأحداث،هي غرق عائلة “كيم” في المياه بعد هطول أمطار غزيرة،بينما كانت عائلة “بارك” تستمتع بالأمر،وتعتبره فرصة للتّرويح عن النّفس،ولعب طفلها.تذكرت ما يعيشه العالم الآن في ظل انتشار فايروس كورونا المستجد كوفيد-19،وبالضّبط تلك العبارات الّتي كتبها الأطفال اللاجئون السّوريّون،وهم يدعون العالم إلى البقاء في بيوتهم لأنّه لو كان ذلك بإمكانهم لفعلوا.ذلك المشهد في الفيلم، أعتبره شخصيّا شهادة حيّة عن بشاعة ما يحدث في عالمنا المعاصر،عالمنا المجنون،الّذي أفقدته المادّة صوابه،ليصبح أغلب أفراده يبحثون عن أنفسهم في كل شيء،دون أدنى تفكير في الآخر،والسّعي لرفع الغبن عنه،ومساعدته.

تتصاعد أحداث الفيلم بعد ذلك المشهد،لتصل إلى الذّروة ليحدث أمر قد لا يتوقّعه الكثيرون،لكن بالعودة إلى عنوان الفيلم “طفيلي” نفهم لماذا اختار “بونج جون-هو” تضمين فيلمه ذلك الحدث بالذّات.

الكائن الحيّ الطّفيلي سيكافح ليبقى،ووجوده يعتمد بالأساس على مضيفه أو عائله،لكن في حالات معيّنة قد يقضي الطفيلي على مضيفه حتّى و إن لم يفكر مضيفه بنفس الأمر،ذلك أنّ البيئة الفاسدة الّتي تسبّبت في خلق ذلك الكائن الحيّ الطّفيلي،تتحمّل مسؤوليّة تمرّد هذا الأخير إذا ما شعر بتهديد أو استخفاف بوجوده أو وجود أيّ كائن حيّ طفيليّ ،من طرف عائله أو مضيفه.

السّيد “كي-تايك كيم” اختار في الأخير،وبطريقة صادمة الانتصار للقاع ومن فيه،والرّوائح الّتي تنبعث منه و من أهله،متخلّصا من خلال الجرم الّذي أقدم عليه، من عجرفة و عنجهيّة واستخفاف أغلب من هم في الأعلى، به و بمن هم مثله.ليختبئ بعدها في الأسفل حيث ينتمي،وحيث لا يمكن أيضا لمن هم في الأعلى بأن يروه.فالكائن الحيّ الطّفيليّ،كائن لا يرى بالعين المجرّدة،وصراعه من أجل البقاء يتعلّق أيضا بقدرته على التّخفّي،وعدم الظّهور،أو لفت الانتباه.

الفيلم انتهى من أين بدأ.نفس النّافذة المطلّة على الشّارع بما فيه من مظاهر فقر و حرمان وقذارة

الابن “كي- وو” الّذي غادر القبو لفترة،وخالط النّاس الّذين يعيشون في الأعلى،وطمح لوهلة بأن يكون منهم،يعود إلى نقطة الصّفر،لكن بتجربة قاسية علّمته دروسا قد يستفيد منها في المستقبل.وها هو يحمل هاتفه في يده،ويخطّط مجدّدا لمغادرة القبو،وتخليص والده،والتخلّص من الرّائحة الكريهة العالقة فيه و في أفراد أسرته،وكأنّ لسان حاله يقول:”ما يهمني فعلا هو أنّي حاولت.بغض النّظر عن الطّرائق الّتي اعتمدتها،يكفي أنّي لم أقتنع ككثير ممّن هم في القاع بما وجدوا أنفسهم غارقين فيه،في انتظار بلوغي مرادي طبعا.فمن جرّب حياة الإنسان الأعلى،مستحيل أن يرضى بحياة الإنسان الأدنى.”

وهنا يحضرني ما قاله الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه:”الإنسان ليس سوى مرحلة بسيطة،لا هدف لها سوى الوصول إلى الإنسان الأعلى.”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى