ماذا كان؟.. قراءة في رواية ’’ قبل أن يأتي الغرباء ’’ للكاتب المقدسيّ عبد الله دعيس

محمد موسى العويسات ـــ القدس | فلسطين

صدرت رواية ” قبل أن يأتي الغرباء” الصّادرة عن دار النشر ( مكتبة كلّ شيء، حيفا) عام 2020، وتقع الرّواية في 370 صفحة من القطع المتوسّط .

أول ما يستوقفك في الرّواية أيّة رواية عنوانها، فالعنوان هو المفتاح بل هو الباب الذي منه تلج العالم الذي صنعه الرّاوي من محض خياله أو من تأويله لواقع معين من خلال أحداث متخيّلة، وهنا العنوان: (قبل أن يأتي الغرباء) يثير في نفس القارئ المتمعّن أسئلة كثيرة أهمّها: مَن هم الغرباء؟ وماذا كان قبل أن يأتوا؟  ما علاقة ما كان قبل أن يأتوا بأتيهم؟ وغيرها كثير تتبيّنها شيئا فشيئا كلّما توغّلت في الرّواية. وهذه أسئلة ثلاثة ليست سطحيّة ولا ساذجة، فكلّ واحد منها يحتمل أكثر من جواب، وتتعدّد الزّوايا التي تطلّ منها أو تحيط بها من خلال هذه الرّواية، إذن للغريب مفهوم، وللجمع (غرباء) دلالة، والظّرف (قبل) فيه إشارة إلى (بعد)، والفعل (يأتي وأتى) وُضِع بعناية، فالعنوان ضمّ الفعل (يأتي)، وانتهت الرّواية بالفعل (أتى) مقترنة بواو الاستئناف.

الرّواية ترصد الأحوال السّياسيّة خاصّة  والمجتمعيّة عامّة في فلسطين وما حولها من الشّام ومصر والحجاز قبل الاستعمار الإنجليزيّ بمائة عام تقريبا، وقد صَدَّرَ الكاتبُ روايته بهذه الملاحظة المهمّة، يقول:

” هذه رواية خياليّة، تدور أحداثها بين عامي  1775و 1810 للميلاد، وهي ليست سردا تاريخيّا ولا تأريخا لتلك الفترة. الشّخصيات والأحداث والرّسائل جميعها خياليّة، ابتدعها المؤلّف لتعطي صورة واقعيّة عن تلك الفترة التّاريخيّة. يُستثنى من ذلك الشّخصيّات العامّة، مثل: الولاة والحكّام وشيوخ القرى وبعض شخصيّات مدينة القدس. الأحداث التّاريخيّة الرّئيسيّة حقيقيّة، أمّا ما نسج حولها من أحداث فمحض خيال.” عبد الله دعيس

وتعدّ هذه الملاحظة مهمّة للقارئ، لأنّه قد يختلط على القارئ عند التوغّل فيها الواقع التّاريخيّ الحقيقيّ بأحداثه السياسيّة وشخصيّاته، بالأحداث الاجتماعيّة الخياليّة وشخصيّاتها المستعارة، والسّرّ في الاختلاط هو واقعيّة المكان وحقيقته، وواقعيّة الفكرة أو الصّورة التي رسمتها الأحداث المتخيّلة. وصدق المعلومة التّاريخيّة المجرّدة، والحقّ أنّ الكاتب تمكّن من أن يجرّ القارئ من عالم الخيال الرّوائيّ إلى واقع تاريخيّ بهذه التّسميات الواقعيّة للمكان والشّخصيّات السّياسيّة والدّينيّة والمجتمعيّة، وكذلك بالأحداث السّياسيّة المتعلّقة بالصّراع الذي شهدته بلادنا آنذاك. ويبقى السؤال الملحّ ما مدى نجاح هذه الملاحظة في صرف ذهن القارئ العاديّ إلى أنّ حشوة الرّواية من الخيال وهو يقرأ على سبيل المثال، رسالة موجّهة من ملك إنجلترا إلى جاسوسه في الشّرق بأسلوب أو لغة يظهر فيها النّفس الأجنبيّ، أو رسالة يتركها الجاسوس لابنته الوليدة باللغة الإنجليزيّة، وتصوّر عقليّة غير عقليّة أهل البلاد؟

وفّق الكاتب في اختيار المدّة الزّمنيّة ما بين عامي 1775 و1810 للميلاد، فهذة فترة مشهودة في ضعف الدّولة العثمانيّة الدّاخليّ، والصّراع بين الدّولتين الاستعماريتين العظميين آنذاك فرنسا وبريطانيا، والذي تجلّى بحملة نابليون على مصر، واجتياحه للسّاحل الفلسطينيّ وهزيمته في عكّا، تلك الحملة التي تركت أثرا كبيرا في بلادنا وثقافتنا ما زال قائما حتى هذه اللّحظة، بل إنّ أوّل من جاء بفكرة وطن قوميّ لليهود في فلسطين هو نابليون ثمّ من بعده تلقّفها الإنجليز، وكانت قوى الاستعمار وبخاصّة بريطانيا تجند جيوشا من عملائها المستعربين لدراسة البلاد وأهلها وأوضاعها ونقاط قوّتها وضعفها، وشراء ذمم كثير من الشّخصيّات المتنفّذة سياسيّا أو قبليّا وعائليّا، وكذلك ظهور محمد علي باشا في مصر وصراعه مع المماليك على الحكم، وشهدت أيضا الصّراع بين أمراء الدّولة العثمانيّة في فلسطين، من مثل الصّراع بين ظاهر العمر وأبي الذّهب، وكذلك اشتداد ساعد الحركة الوهابيّة في الجزيرة وسيطرتها على الحجاز وتحكّمها بالحجّ، وقد شهدت تلك الفترة صراعا داخل الدّولة العثمانيّة وفي عقر دارها استانبول بين الإنكشاريّة وحركة الإصلاحيّين. ومن جهة أخرى كانت العصبيّة القبليّة قد بلغت أوجها في فلسطين، فكان الصّراع محتدما بين تجمّعين قبليّين تاريخيّين هما اليمنيّة والقيسيّة، والذي بقيت آثاره إلى أن حلّت النّكبة الأولى عام 1948، وتعود جذوره إلى عصر الدّولة الأمويّة. وكذلك كان حكم الدّولة العثمانيّة لهذا البلاد وبخاصّة في القرى والأرياف هزيلا، يخلو من الرّعاية الحقيقيّة، ويقوم على الجباية، وكان فقدان الأمن خارج المدن وفي الطّرق الرئيسة بينها السّمة الغالبة، وتقتصر سلطتها على جمع الضّرائب والعشر وغيرها. كلّ هذه الأمور رصدتها الّرواية التي بين أيدينا، من خلال أحداث كانت شخصيّاتها الرئيسة الجاسوس الإنجليزيّ المستعرب آرنولد ديزرائيلي، الذي تسمّى بالشّيخ إبراهيم الحلبيّ، وكان يتحدّث التّركيّة والعربيّة التي تشوبها لكنة غير خافية، وكان مكلّفا من ملك بريطانيا مباشرة بالاستطلاع والتعرّف على بلاد الشّام ومنها فلسطين، ودراسة كلّ شيء فيها، ورسم الخرائط ، وكان مهتمّا اهتماما بالغا بمعرفة اللّغة العربيّة وجمع بعض ألفاظها. وشخصيّة مريم الكسوانيّة، من قرية بيت إكسا، التي كانت في نظر أهل قريتها وقرية الحرم فيما بعد امرأة مشؤومة يموت كلّ من يتزوّجها، ولكنّها امرأة ذات شخصّية قويّة مولعة بالتّرحال والتّعرّف على البلاد، وفي قرية الحرم تزوّجها دزرائيليّ (الشّيخ إبراهيم الحلبيّ)، وأخذ يجوب بها البلاد، فلمّا حملت منه وأدركها المخاض، التجأا إلى قرية بيت سقاية غرب القدس وهناك وضعت وليدتها سارة الشّخصيّة الرئيسة الثّالثة في القصّة، التي تربّت في بيت ابن حمّور لدى أمّه المكنّاة أمّ البلد، بعد أن غاب أبوها في عودة له إلى إنجلترا، واختفت أمّها في رحلة صعبة مؤلمة للبحث عن زوجها الشّيخ الحلبيّ، ومن قرية المالحة انتقلت سارة إلى القدس بعد أن كان اختطافها من قبل رجل أحبّها سببا في القضاء على قرية بيت سقاية، فيما يسمّى بالصّراع بين اليمنيّة والقيسيّة، وتأخذ سارة هذه جزءا مهمّا من الرّواية على امتداد مكانيّ واسع تراوح بين القدس في فلسطين ومدن أخرى من مثل غزّة ويافا، والإسكندريّة في مصر، وتونس واستانبول في تركيّا. وقد واجهت في هذه البلاد تجارب وأحداثا كبيرة وفي بعضها كانت مؤلمة. ففي القدس تعلّمت القراءة والكتابة والفقه الشافعيّ في بيت محمد أبي السعود مفتي الشّافعيّة في القدس، وتزوّجت من التّونسيّ عبد الرّحمن، وفي الاسكندريّة تعرّضت للاغتصاب على أيدي رجال الألفيّ الذي كان يصارع محمد علي على حكم مصر، وفي إستانبول شهدت حربا طاحنة بين الإنكشاريّة وجيش الإصلاحيّين، وفي غزّة شهدت اجتياح البدو لمدينة غزّة واستباحتهم لدماء أهلها ونهبها، وعادت إلى القدس، وفي كلّ هذه المسيرة كانت تتحرّى أو تبحث عن أمّها وأبيها، أبيها الذي اكتشفت من خلال رسالته التي آلت إليها في بيت سقاية والمخطوطات التي كان قد استودعها عند شيخ قرية الحرم في يافا أنّه جاسوس إنجليزيّ، فعاشت صراعا نفسيّا عظيما،  وقد انتهت الرّواية بتعرّف سارة على أمّها وأبيها بعد أحداث حرق كنيسة القيامة في صراع بين الأرمن وطوائف النّصارى الأخرى. وظهر أنّ أباها كان مطلوبا للسّلطة البريطانيّة بتهمة الخيانة لمهمّته، ومخيّرا بين العودة لبريطانيا أو الذّهاب إلى أستراليا، يقول الكاتب على لسان سارة: “سارا باتّجاه السّفينة، انخلع قلبي ألما لمّا ابتعدا… توقّفا ونظرا إليّ، ثمّ رأيت أمّي تعود باتّجاهي، ففتحتُ ذراعيّ، سار أبي بعيدا، توقّف مرّة أخرى، فتح صندوقه وأخرج عباءة الشّيخ إبراهيم وعمامته، وضعهما، وأتى.” وقد تمكّن الكاتب من رسم معالم شخصيّاته رسما بديعا، وبخاصّة في الجانب النّفسيّ، وتجلّى هذا في رسم شخصيّة الجاسوس البريطانيّ الشّيخ إبراهيم الحلبيّ، فكان أنموذجا لشخصيّة كثيرين من الجواسيس البريطانيّين وغيرهم الذين جاءوا إلى بلاد العرب والمسلمين في مهمّات استعماريّة، فتعلموا اللّغة والدّين، وتزوّجوا من أهل البلاد وعاشوا في مجتمعاتها وتأثّروا بهم تأثّرا بيّنا، فالتبس أمرهم على أهل البلاد: هل تخلّوا عن مهمّاتهم التّجسّسيّة ودخلوا الإسلام أم بقوا على ما هم عليه من ولاء؟ فقد التصق هذا الجاسوس بهذه البلاد الجميلة وأحبّ أهلها، وشهد بشائع وقتلا بين أبنائها في صراعات بين الأمراء، جعله يستنكر مهمته، وجعله يدور في صراع نفسيّ بين عاطفة إنسانيّة وبين الولاء لحكام بلاده وسياسة دولته المستعمرة، لذا وجدناه قد أخفى الكثير من الخرائط والوثائق والمعلومات التي جمعها وحجبها عن دولته، فعاش ردحا من الزّمن متخفّيا في القدس في دير الأرمن مطاردا من حكومة بريطانيا. ويشير الكاتب في نهاية الرّواية إلى أنّه رجع بعد أن همّ بمغادرة البلاد وأخرج من الصّندوق عباءة الشّيخ إبراهيم وعمامته، يقول على لسان سارة: “…  ثمّ رأيت أمّي تعود باتّجاهي، ففتحتُ ذراعيّ، سار أبي بعيدا، توقّف مرّة أخرى، فتح صندوقه وأخرج عباءة الشّيخ إبراهيم وعمامته، وضعهما، وأتى.” هذا النّصّ لا يقطع بأنّه تخلّى عن مهمّته، بل إنّ كلمة (أتى) لهذا الرجل الغريب تتساوق مع العنوان في الإيحاء بأنّ السّياسة الإنجليزيّة في بلادنا قد نجحت في تهيئة الظّروف أو استغلال الظّروف للاستعمار القادم. وكان النجاح الكبير في أن يلتبس أمر آرنولد ديزرائيلي على أهل البلاد رغم اللّكنة التي تشوب عربيّته، وجاز عليهم أنّه شيخ حلبيّ، وكان نجاحه كبيرا في مهمّته عندما تزوج مريم الكسوانيّة، فزواجه منها له دلالة رمزيّة هي أنّ الإنجليز وجدوا الحاضنة لهم في هذه البلاد، فقد وجد هذا الجاسوس من يقبله ويشاركه مهمّته ويوافقه في رغبة الاستكشاف، وجد من يتقبّله على علمه بأنّه جاسوس، فينقذه من القتل في مذبحة يافا، ومن الإعدام في فتنة كنيسة القيامة، وهذا هو البعد البعيد لشخصيّة مريم، ثمّ كان النّجاح الباهر أن ينجب من هذا الرّحم العربيّ ذرّيّة تحفظ الولاء له، فتتشبّث به ولا تريده أن يغادر البلاد بعد أن بحثت عنه طويلا وتألمت كثيرا لفقدانه، ورغم  تلك الثّقافة العربيّة والإسلاميّة التي تلقّتها في القدس، حتى غدت مدرّسة في إحدى مدارسها، بقيت تحتفظ بدماء الإنجليز، فكأنّ سارة ترمز إلى نجاح الإنجليز في الوصول إلى صلب الثّقافة العربيّة في بلادنا. وهكذا أجابت الرّواية عن الأسئلة التي أثارها العنوان، فما كان قبل أن يأتي الغرباء هو أحداث وأحوال سياسيّة وغير سياسيّة هيّأت الظّروف والبلاد لقدوم الغرباء، الغريب الأول الذي جاء بالغريب الثّاني فكان ما نحن فيه من ضياع. وهكذا نكون أمام رواية ذات أبعاد واقعيّة وتاريخيّة ورمزيّة، فأجمل الأعمال الأدبيّة ما يقرأ على وجوه مختلفة، والرّمزيّة في هذه الرّواية ليست كناية في كلمة أو عبارة موحية، بل هي قراءة تستكشف وجها آخر لمجمل هذا القصّ، بتأويل التّفاصيل أو ترتيبها في إطار يصطنعه القارئ بفهمه الخاصّ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى