الحس القومي في أدب الأطفال
ساهرة رشيد
قال الدكتور جاسم محمد صالح في مقدمة دراسة بعنوان (الحس القومي في أدب الاطفال) على أديب الاطفال واجب تربوي والتزام اجتماعي وثقافي تجاه شريحة الاطفال الذين يعيشون حالة الانتماء الوطني وللبلد الذي يعيشون فيه من دون ان يكون هناك وضوح للرؤية القومية لديه وللقصة والرواية والمسرحية دورها في تعزيز هذا الانتماء وترسيخه لديه , مشيراً الى إن للحس القومي أثرا كبيرا في تنمية الروح الوطنية لدى الطفل في مراحله المتأخرة , حيث يكون الشعور الوطني بالانتماء للوطن بوابة للولوج الى الانتماء الى امتنا العربية من افقها الإنساني وعمقها التاريخي والحضاري , علماً ان هذا الشعور هو جزء من ثقافة تربوية واجتماعية موجودة عبر الاحداث والحكايات والقصص التي سمعها الطفل او عاش احداثها , مبينا ان مسؤولية أديب الاطفال تكون صعبة وهذه الصعوبة تتأتى من كيفية استثمار مفردات الانتماء من احداث وقصص وروايات وتحويلها الى عمل ادبي يجمع بين جمالية النص ووضوح القصد وتعميق الشعور لدى الاطفال بأنه وأن كان وطنياً ينتمي الى هذا القطر أو ذلك , لكنه في النهاية كل هذه الاقطار تنصهر في تسمية أكبر وأعمق وأكثر وضوحاً هي (الأمة العربية) ذات الارث الحضاري العميق والتاريخ المشرف عبر العصور المختلفة مع كم هائل من المواقف المختلفة, ملخصاً ان اديب الاطفال إضافة الى قدرته الفنية والابداعية في مجال ادب الطفل … قصته, رواية , مسرحية عليه ان يكون :
1-عارفاً ومطلعاً على التاريخ العربي ليتمكن من استثمار الاحداث والوقائع التي تتناسب مع عقلية الطفل وتوجهاته الحديثة وان يكون حذراً جداً في الاستفادة لأنه ربما هناك وقائع جرت سابقاً وكانت وقتها ذات بعد جيد اصبحت الآن غير مقبولة لتغير الرؤيا والنظرة اليها .
2 – مطلعاً على الارث الاسطوري لهذه الامة ولا سيما تلك الاساطير التي سبقت الاسلام في العراق او الشام او الجزيرة العربية او اليمن واستثمار الاساطير ذات التوجه الانساني والمواقف الاجتماعية والتربوية وتقديمها بما يتناسب مع لغة العصر وروحيته , مبتعداً كل البعد عن الاسطورة التي تروّج للعصبية او التعنصر او الالحاد او الرذيلة , حيث نرى في اساطير تغريية بني هلال وحكايات الزير سالم وجابر وجبير والاميرة ذات الهمة والمياسة والمقداد مواقف انسانية مشرفة بإتقان اديب الاطفال اعادة تسويقها للأطفال من جديد بثوب العصرنة ومفاهيم الحداثة بما فيها من متغيرات ووضوح في الرؤيا والطرح والتناول.
3- مستوعباً للإرث الاجتماعي من حكايات شعبية ومواقف شخصياته لأبطال تمكنوا بقوة شخصيتهم وذكائهم الاجتماعي والشعبي ان يرسخوا لهم صورة بقيت راسخة في المخيلة الشعبية من جيل الى جيل مثل حكايات (ابو القاسم الطنبوري) أو (دليلة والزنبق) او (جحا) بما في ذلك الحكايات المتناثرة في كتاب : الف ليلة وليلة والبيان والتبين للجاحظ , على شرط ان تخضع لرؤيا تربوية جديدة وتحويل حكايات ( الطنبوري) من سيطرة البخل على (ابي القاسم) الى رؤيا عميقة بالمستقبل من خلال الحرص والتوفير والتفكير بالمصائب التي ستحل مستقبلاً , حيث يتحول المال الذي جمعه الى مصدر سعادة الفقراء والبسطاء من الناس بعد ان تعرضت المدينة للحصار وبهذا سيتحول رمز الطنبوري من رجل مقتر وبخيل في المخيلة الشعبية الى رمز للعقل والتدبير له دور في صمود ابناء المدينة ضد اعدائها الطامعين وما شابه ذلك في كثير من الحكايات التي تتقارب معها في الشكل والمعنى وتختلف معها في الطرح والمضمون .
4 -مستوعباً لمكونات التاريخ السياسي للامة العربية بالأحداث التي مرت عليها والتي ارادت استهداف قوة نسيجها وقطع وشائج ارتباطها بدءاً من اطماع الدولتين الفارسية والبيزنطية قبل الاسلام ومروراً بأطماع المغول والدولتين الصفوية والعثمانية مع قراءة حذرة للحملات الصليبية التي تعرضت لها امتنا العربية ودور صلاح الدين الايوبي المشرّف في دحرهم والحفاظ على قوة البنيان والنسيج الاجتماعي لهذه الامة مع وقفة حديثة امام الاطماع الاستعمارية وما تعرّضت له الامة من غزوات ايطالية واسبانية وبرتغالية وانكليزية وفرنسية , حيث افرزت هذه المرحلة ابطالاً وشخوصاً لهم وقعهم الخاص كجوت جمال وسليمان الحلبي والامير عبدالقادر الجزائري وعبدالكريم الخطابي والحسيني وعمر المختار, علماً ان كثيراً من هذه الرموز استثمرت سينمائياً للكبار ولاقت نجاحاً كبيراً مما يشجع على اعادة صياغتهما للأطفال وتقديمهما.
رواية (منقذ اليعربي) تاليف جاسم محمد صالح مثالا على أكبر المواقف المؤلمة التي تعرضت لها امتنا العربية هو احتلال بغداد من قبل المغول المتوحشين وحرقها وتدميرها على ايديهم سنة 656هـ / 1258م , وهذا الحدث بالذات يمثل نقطة تحول للامة العربية من حالة السيادة الى حالة الذل والتخلف والعبودية وايذاناً بشرذمة الامة وتمزقها , حيث قرأت هذا الموقف بعين اديب الأطفال اولاً وبعين الباحث المؤرخ ثانياً وقررت ان أوطن هذا الحدث في فعل ادى للأطفال تسلبهم البعد الوطني اولاً ومن ثم يستلهم الحس القومي ثانياً , حيث جعلت من شخصية اسمها (منقذ) استعرت الاسم للدلالة على ربط الفعل بالاسم وهو انقاذ الادلة , وهذا على صفة العروبة اللصيقة به هي التي تفعل فعلها في انقاذ اي جزء من الامة يتعرض الى خطر داهم , ثم فكرت في مهنة لهذا المنقذ , لم اجعله حاكماً ولا قائداً ولا تاجراً وإنما جعلته صاحب مهنة , للدلالة على البساطة في الحياة مع عمق الخدمة التي يؤديها فكان حداداً وعمله صنع السيوف والرماح التي ستدخل فيما بعد كعنصر فاعل في احداث الرواية هذا الرجل الحداد قام بواجبه في تحذير الخليفة لكن الخليفة لم يرعوي وحدث ما حدث للمدينة من تدمير لكن هذا لم يفت من عضده , فانتخى بأبناء المدن العربية لمساعدته في دحر المغول, فالخطر الداهم لايقتصر على بغداد وانما تعداها الى كل مدننا العربية , فوقف الجميع معه والتقوا المغول في معركة عين جالين فكان نصر الامة العربية على اعدائها الطامعين وعاد منقذ الى بغداد مع ابنائها الذين ضحوا من اجلها , هنا فكرت كمؤلف في نهاية لهذا الرجل ( منقذ اليعربي) فحينما اراد اهل بغداد ان يجعلوه حاكماً عليهم تكريماً لجهوده في تحرير المدن رفض ذلك وعاد الى مزاولة مهنته حداداً كما كان في دكانه القديم لان الدفاع عن الوطن والتضحية من اجله موقف لا يكون بثمن , لان الوطن اغلى من كل شيء , بل وأغلى من كل الوجود : (( اتفق اهالي بغداد على ان يجعلوه حاكما عليهم مكافأة له على اعماله وتثميناً لجهوده , لكنهم حين تفقدوه لم يجدوه بينهم وبعد سؤال وبحث عرفوا انه عاد الى دكانه القديم ليمارس فيه عمله حداداً مثلما كان , رفض منقذ اليعربي ان يكون حاكما على بغداد فما فعله جزء من واجبه تجاه الوطن , فهو مواطن والمواطن يدافع عن ارضه بكل ما يملك )) ( رواية منقذ اليعربي – ص33 ) فالانتماء للامة العربية قدر كبير وشعور لا مثيل له , وهو جزء من اثبات الهوية , الهوية التي تعمل على تعزيز روح المواطنة في الفرد وانتمائه اولاً للوطن وبعدها وصولاً الى ذلك الانتماء للامة, التي هي على قدر كبير يرفع القيمة ويعزز الذات وهذا الشعور تعمل اجهزة اعلامية مدسوسة على تغيير هذا المسار لقطع الانتماء والتواصل الروحي والفكري بين الفرد ووطنه وامته , لهذا فكاتب الاطفال عليه ان يحمل هذه الصورة ويعزز هذا الانتماء من خلال اختيار النماذج الرائعة والمواقف الخلاقة لترسيخ الهوية وتعميق الانتماء الذي وجد وتألق في عالم متصارع فعلينا ان نحدد مكان وقوفنا وصولاً نحو المستقبل المأمول .