رواية ” أسد أم جفيل الأعرج ” (9)
طارق المأمون | السودان
اللوحة للفنان: كيانو ريفز
… شكل وجود الأسد الأعرج أو “مراد باي” لغزا محيرا و تحديا مثيرا للهواة و المحترفين من الصيادين, لا تجد له مكانا محددا فهو كثير الحركة و التجوال….
وكم من مرة أتى بخبره أهل العمق الأفريقي بالذات في الفترة التي انحسر وجود الأسود في الجبال الشمالية فيأتي بأخباره صيادوا “باماكو” و نهر ” نيل السودان ” كما يسميه العرب أو نهر”اجرون يجرون” كما يسميه “الطوارق ” أو نهر “النيجر” كما سمي حديثا. فشبهوه بالبطل العظيم ” ماندينقا سوندياتا كيتا” أو ” ماري جاتا” الأعرج و التي تعني “أسد مالي” فقد كان مقعدا و لكنه أمسك بصولجان أبيه فقام و قامت معه بلاده فوحّد القبائل و انتصر على “سمانجورو” في معركة “كيريانا” الشهيرة و أنشأ “سلطنة مالي العظيمة” على طول “نهرالنيجر” حتى “المحيط الأطلسي” و التي امتدت لقرون طويلة مجيدة عزيزة – فأطلق عليه صيادوا قبائل “السوننكي” و قبائل “المادينغا” و مقاتلوها الأشاوس لقب ” ماري جاتا ” بعد أن فعل بهم مثل ما فعل بسابقيهم في الشمال البعيد و قد لاحظوا بفراستهم تفانيه في حماية كل الغابة و ليس قطيعه الذي يماشيه و يستأنس به فقط كفعل باقي الحيوانات و الوحوش التي لا تحمي إلا زمرتها وقطيعها…
فلما كثر عدد الأسود أصبح وجودها خطرا يتهدد الحيوانات و البشر في تلك المناطق أخذ السكان يشنون عليها حملات منتظمة و مستمرة تهدف الى قتلها أو طردها من المناطق المتاخمة يتزعمها الصياد الشهير “موجيانا” الذي جابت سمعته الآفاق حتى وصلت الى ذلك السوق البعيد فوصله منه من يدعوه الى مهرجاناته ليراه الناس و يحكي لهم عن مغامراته مع الأسود و بالذات الأسد ذي العرجة البائنة “مراد باي” أو ” ماري جاتا ” و كان ذلك بتمويل من أحد الأثرياء الأوربيين لأحد أشهر الحكواتية الذين بدأ سوقهم يضمحل بعد اضمحلال قصص الأسد الأعرج و تطاول الزمن على أخبار صياديه..
و كما في الشمال الأفريقي فإن استبسال ” ماري جاتا” الأعرج في العمق الأفريقي في حماية القطعان من الأسود التي رحلت بسبب الهجمات المتعطشة للمجد و الشهرة تاركة وراءها بيئتها التي نشأت فيها و تكاثرت سلالاتها بها منذ القدم , ساعد استبساله في الحفاظ على كينونة الأسود الشمالية من التشتت و على سلالتها الجبلية من الإنقراض و على هويتها وسط حيوانات و سباع الداخل الأفريقي الشهيرة بحدة طباعها و شراستها التي مرستها عليها كثافة الأدغال و قوة الصراع بين الحيوانات المفترسة القوية على ضعاف الحيوانات المستضعفة التي غالبا ما تكون فريسة سائغة لأسد ظالم أو لنمر عابث أو لذئب مخادع أو لضبع عربيد …
القرويون الذين يحاددون نهر “النيجر” شهدت حياتهم الكثير من التحولات الإقتصادية وفقا لسخاء المطر المعطاء وشحه الذي لا يكاد يتوقف الا قليلا لا اعتمادا على فيض أياد النهر العظيم و كرمه و لذلك كانوا كثيري الشكر لله , الذين وهبهم رزقهم من السماء لا يتعبهم فيه بشق أرض ولا بحفر ترعة , و كانوا يتقاسمون التصدق بعجل شهري يلقونه للأسود و السباع داخل الغابة امتنانا و عرفانا لله على توجيهه لها بعدم مهاجمتهم , ثم تقربا لها و تزلفا بسالف يد عندها تحميهم من غضبتها حين تجوع و رغبتها في الإفتراس .. و حين يتأخر المطر فإنهم يعمدون الى طفل معاق أو طفلة عاجزة بمرض أو إعاقة تحايلا على شرط “السحرة” الذين طالبوا بطفل صحيح الجسم غير معتل – يختارونه بالقرعة بواسطة ساحرهم الأكبر أو من ينوب عنه ثم يحملونه و يربطونه الى جزع شجرة كبيرة يوما كاملا فإن وجدوه صبيحة اليوم التالي حيا لم يصب بشيء فرحوا و انتظروا المطر الذي لا يتأخر عليهم بعدها كثيرا , و إن وجدوه قد افترسه حيوان مفترس لجّوا في التضرع و الاستغفار و وهب الأبقار للحيوانات المفترسة تصدقا لله كي يتعطف عليهم و يكرمهم بإنزال المطر,,, ولو شقوا الترع و حفروا القنوات لكان خيرا لهم.
تعودت الأسود التي نشأت في منطقة حوض النيجر الأوسط على هذه العادة و رعت عهودها بعناية فائقة فكانت لا تعتدي على إنسان طالما التزم عدم الإعتداء عليها ..لا يشذ عنها إلا الذئب ذو النفس الجشعة و الضبع ذو الطبيعة الغدارة … فإذا أغضبت كرائم السباع باعتداء عليها فإنها تثور في غضبة كبيرة تهاجم إثرها القرى و حيواناتها و إنسانها لا ترعى عهدا و لا ذمة قديمة .. و كذلك إذا ما اعتدى أحد السباع على قرية أو حيوان مستأنس هو لأحد القرويين أو انسان بريء فإن أهل القرى القريبة كلهم يتضامنون في غضبة ضارية تخرج لها كل القرى رجالا و نساء شبابا و شيبا و أطفالا يحرقون مراتعها و يقتلون من وجدوه منها لا يسلم منهم إلا من أنقذته أقدامه ويستمر هذا الأمر الى أن يتدخل حكيم يصلح بين الطرفين فتعود الحياة الى سابق عهدها….و يكون الإصلاح بجمع ما قتل من السباع و الوحوش لا ليأكلوه و كانوا إذا ما اصطادوا شيئا من السباع في غير هذا اليوم أكلوه,, بل يرمونه إليهم في مناطق بعيدة تفصل بين الفريقين فريق السباع و فريق القرويين و يرجع القرويون الى قراهم بعد أن هدأت ثائرتهم و شفي غيظ قلوبهم و أطمأنوا أنهم لقنوا الأسود و السباع المفترسة الأخرى درسا قاسيا.. لا تلبث الحياة بعدها أن تعود الى سابق عهدها…لكن الأسود الغريبة جديدة على عادات أهل هذه المنطقة لم تتعود عليها فقد كانت حياتها كلها بين طارد و مطرود , لم تعهد السلم مع هذا الكائن ذي االساقين الذي يقف منتصبا كما الأشجار و لكنه لا كمثلها يتحرك… و لا لفترات قليلة يستجم فيها الطرفان كهدنة ينصلح فيها حالها يزيد نسلها و تقوى صحتها .. خاصة في الفترات الأخيرة … أدى هذا الحال لريبتها منه و اتخاذها له عدوا مبينا..
و لذلك كثيرا ما كانت تتعدى على تلك المواثيق و العادات المتبعة بين أهل هذه المنطقة الجديدة عليهم و بين أهلها من السباع و الوحوش … فإذا ما وجدت بقرة أو عجلا أو كبشا أو غير ذلك مما عظم أو صغر من ماشيتهم فإنها لا تتورع من الفتك به و أخذه لسد جوعة أو لتأمين غذاء … وإذا ما التقت بذلك الكائن المنتصب ذي القدمين المتحرك فإن ردة فعلها الطبيعية هي الهجوم عليه لا تخاف عاقبة و لا تبالي بمصير…
فاتخذتها السباع الأخرى عدوا نافسها في المرعى و المسكن و النفوذ , و أثار حفيظة القرويين الحلفاء عليهم أجمعين القدامى و القادمين , إذ تتالت هجماتهم الضارية عليهم , فروعتهم فأصبح دخولهم الى مراتعهم في الغابة دخول توجس و مكوثهم فيها مكوث عجلة , عكس القادمين الجدد الذين اعتادوا على الكر و الفر في ماضيهم القريب فليس في حفيظة ثائرة من مهدد و لا في نار متقدة من خطر و لا في سلاح مشهرور من مخاف… ترد التهديد بهجمة أو فرار بعده هجمة و تجيد التعامل مع النار , فقد تعلمت أن النار تؤذي عدوها كما تؤذيها , و تعرف كيف تخاتل السلاح فلا يصيبها إلا حين غفلة .. ثم إنها تعتدي على من اعتدى عليها لا تترك ثأرا يبيت..هذا و قائدها الأعرج “ماري جاتا” يكبح جنوده حينا و يجمح بهم حينا آخر فاشتهر و ذاع صيته كما كان ذائعا في مراتع الشمال البعيدة…
حانوت “الباهي البنزرتي” الكبير الأنيق الذي يقع في الجهة الشرقية المطلة على مدخل الملوك و الأمراء , يقع منها في الواجهة المشرفة على الجبال الشرقية ..يأخذ كل المنظر المطل على السوق من نزل الأغنياء و الأمراء و أصحاب الفخامة , فلا يُرى من السوق إلا حانوته و بعض يسير من الحانوت الذي يجاوره و حركة المتجولين الذين يدخلون الى السوق من هذه الناحية و أسقف الحوانيت المطلة على الغرب و جدرها الخلفية , التي حرص أصحابها على تزيينها و طلائها بألوان قشيبة حتى لا يجرح المنظر الكلي حسن و بهاء اللوحة المطلة على نزل الأمراء و الأغنياء , فيأخذ المنظر كله لوحة زاهية … اشتهر متجره هذا منذ عقود و رثه عن أبيه ” لخضر” الذي جاء في وقت مبكر كصياد صغير يبيع ما مَن الله به عليه من صيد يومه من الثعالب و الغزلان و الأيائك الصغيرة و الطيور المختلفة بعد أن بدأ حياته و هو شاب صغير كصائد أسماك في مدينة “هيبو” أو “بنزرت” كما يسميها الأوربيون الذين يقصدون سواحلها الجميلة في السياحة و البحث عن البضائع الأفريقية .
تطورت حياة ” لخضر”والد “الباهي” و ازدهرت بعد أن قطن “سوق أهراس” و بدأ كتاجر صغير يبيع صيده اليومي مفترشا الأرض ثم متخذا له طاولة تطورت الى عربة متحركة تعرف بسببها على “مختار” كبير تجارالسوق يقضي له حوائجه و يوصل له أماناته بعد أن اشتهر بهذ الخصلة الثمينة “الأمانة” ,……
يتبع