القصيدة البصرية في “إيقاظ الفراشة التي هناك”
ناصر أبو عون
(قاسم حداد وإبراهيم بوسعد نموذجا) القصيدة البصرية.. جدلية المنفى والاغتراب
اشك أن ثمة علاقة تبادلية وأكثر عضوية بين الشعر والفن التشكيلي تنمو الآن في فضاء التجريب الإبداعي العربي وتتأصل من خلال إقامة بنية محكمة تشحذها الحركة السريالية ومرتبطة بمادة شعرية مقتطعة من مناخات الشاعر وهواجسه ولغته الشعرية ونظن أن هذه العلاقة تتجلى على نحو أكثر فعالية في يسمى اصطلاحا بـ (القصيدة البصرية) تلك القصيدة التي تتخذ من الكلمات والجمل علاقات أكثر ارتباطية؛ شبيهة بالعلاقات بين الألوان والخطوط في فضاء اللوحة وهذه التقنية الإبداعية (شعرا وتشكيلا) لم يكن ُيكتب لها النجاح لو لم ينتقل الشعر من الإيقاع الشفوي إلى الإيقاع البصري أي من الإيقاع اللسني إلى الإيقاع الصامت.
ونتساءل مع بول شاؤل: هل يمكن أن تشكل اللوحة بخطوطها وألوانها وسطحها الناعم أو الخشن فضاءات تشكيلية ُتدَاخِل القصيدة وتتحول إلى جزء منها؟ وكيف تلتقي تلك اللوحة والقصيدة من خلال هواجس الشعراء والفنانين بوحدة الفن أو بوحدة الطبيعة الفنية ؟ و إلى أي مدى يمكن أن نحول لغة الكلام إلى فضاءات تشكيلية وتاليا لغة الفضاءات التشكيلية إلى كلام شعري أو بالأحرى إلى قصيدة؟ وهل تستطيع كل من القصيدة واللوحة قراءة كل منهما للأخرى وتقديم رؤية تفسيرية وقراءة نقدية يسترشد بها المثقف في استكشافه للعوالم المجتمعية المترامية الأطراف والمتناثرة في كل حضارات وثقافات الكون؟
وللإجابة عن تلك التساؤلات السالفة الذكر سنحاول اختيار نموذج تطبيقي جمع بين الشعر والفن التشكيلي من خلال رؤية حداثية مستنيرة انطلقت من مملكة البحرين تمثلت في تجربة (ديوان : إيقاظ الفراشة التي هناك) التي جمعت بين الشاعر قاسم حداد والتشكيلي إبراهيم بوسعد لتمطر غيثها فوق هضاب اللغة وجوقات الألوان من المحيط إلى الخليج مؤثرة ومتأثرة. إن المؤرخ لنشأة الحركة الحداثوية شعريا في هذا القطر لا يمكن أن يغفل دوركل من علوي الهاشمي على مستوى التنظير وإنتاج النص الحداثي وسعيد العويناتي وعلي عبد الله خليفة ويعقوب المحرقي وقاسم حداد وعلي الشرقاوي.
والتجربة الحداثية شعريا في البحرين لم تتشكل في الفراغ ولم تتناسل مصادفة ولم تكن نبتا شيطانيا بزغ في أودية الشعر (أسطوريا) بل تجربة انطلقت من أرض صُلبة موصولة بتراث عربي رحب ولم تُعلن قطيعتها مع القديم ولم ترفض السلطة الأبوية على نحو ما حدث في مصر مع شعراء السبعينيات الذين رفعوا رايتهم الشعرية تحت مسمى (قتل الأب). ولا زالت الشعرية الحداثية البحرينية الآنية تحمل في طياتها عبق شعرية الإحيائي : (إبراهيم محمد الخليفة) والرومانتيكي: (إبراهيم العريض) والواقعي : (عبد الرحمن المعاودة) والثوري الستيني: ( غازي القصيبي)
(لقد شهد هؤلاء الشعراء التحولات الكبرى في مراحل: اللؤلؤ – البترول ، وامتلأت دماؤهم بالهموم الموروثة فيهم ، منذ تجربة الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد ، مرورا باحتضانهم للثوار والخارجين على نسيج الدولة العباسية، اتصالا بتجارب النضال التحرري : سياسيا – فكريا – إبداعيا (كالنضال الصوفي وفضاءات الإبداع المهمش في التاريخ، بما يؤكد ارتباط الشاعر البحريني بأرضه وجذوره وانطلاقه – دائما – من هذه الأرض وهي مرحلة الوعي الثوري، الوعي بالمعاناة والظلم وكدح الإنسان البحريني في مطلع القرن – غواصا وفلاحا ، وانتفاضات الغواصين الفقراء على أصحاب السفن (النواخذة) المتوالية في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين وتفاعل هذه الحركات في سياق الأفكار التحررية العالمية وربما مطالعة تحركات الفكر الاشتراكي )(1) وثمة أصوات شعرية بحرينية لا زالت تحتفظ بطزاجة الرؤية الحداثية ولازالت تواصل عطاءها الشعري وهذه الأصوات كثيرة
في هذه الدراسة سنكتفي بدراسة نص: (إيقاظ الفراشة التي هناك): لقاسم حداد والتأثيرات المتبادلة بينها وبين لوحات إبراهيم بوسعد التشكيلية ومحاولة معرفة دور هذه التأثيرات في تحويل لغة الكلام إلى فضاءات تشكيلية وتاليا كيف تحولت الفضاءات التشكيلية عند إبراهيم بوسعد إلى كلام شعري أو بالأحرى إلى قصيدة ..
واختيارنا لقاسم حداد راجع إلى موضوع الدراسة الذي يتمحور حول (جدلية المنفى والاغتراب وعلاقتها بالقصيدة البصرية) ولكون قاسم حداد شاعرا عاش تجربة النفي داخليا على مستوى الذات وعلى مستوى الواقع السياسي وله تجارب صدامية مع الآليات السلطوية في المجتمع البحريني أودت به إلى الاعتقال ومن ثم كان هذا الدافع الرئيس وراء هذه الدراسة إضافة إلى محاولة الإجابة على هذه التساؤلات: هل يمكن اعتبار اللعب على فراغات اللوحة لونا وخطا قد أثرا في القصيدة الحداثية خصوصا القصيدة التي حولت الصفحة (الورق) إلى فضاء تستخدمه استخداما (تشكيليا)؟ وهل يمكن اعتبار القصيدة البصرية امتدادا لتأثير اللوحة في بناء القصيدة؟
وعلى الرغم من شيوع هذه الظاهرة عالميا وعربيا إلا أن اختيارنا للشعر البحريني المعاصر متمثلا في قاسم حداد يعود لسبب جوهري لكون الحداثة الشعرية مرفأ هاما في البحرين ( يتمتع بسليقة ما تجعل من هذه الأرض المشحوذة حقلا خصيبا لإنبات شعراء ودفعهم في فضاء يقدر أن يصهرهم إلى حد أن يتقاطروا شعرا ، وأن يتوهجوا بالشعر ، متقدمين أصوات منطقة الخليج الشعرية ، وقد شهدت فترة السبعينيات في البحرين توغل موجة من الشعراء تندفع لتلقي بنص الشعر الحر – كما أنجزه الرواد- إلى الشاطئ ، ليشهد البحر استجاشة شعرية حداثية تلحق جيل السبعينيات البحريني بالفضاء الحداثي المنزاح عن مجرى الرواد والموازي له، بعدما آل إليه نص الرواد من سكونية ودعة راكدة إثر عوامل عدة أوجبت ظاهرة الحداثة الشعرية كفعل مُلحٍ)(2)
نحن هنا، إذن، سنكون بإزاء موجة تحويل المسار الشعري، التي بدأت مع السبعينيات وشهدت تحولا رأسيا مع وصول فصائل الثمانينيات إلى الصفوف، ليغسل النص جيدا بأيدي الجيلين، ويسقط الشعاري عن شعريه، وتصعد الكتابة على أنقاض الخطابة، وليتم اختراق النص الجاهز المستبد بالنص الموازي التعددي الضاري .
إننا نرى أن المنهج اللغوي الأسلوبي هو أنسب المناهج لمعالجة موضوع الدراسة لقدرة هذا المنهج الفائقة على المزاوجة بين الأصول التراثية والروافد الحداثية وبناء على هذا التوجه المنهجي الذي تعتد به الدراسة سيتجه البحث إلى عقد مزاوجة بين التحليل الأسلوبي والإدراك الذوقي (الذي يوظف الحدس في الكشف عن المخبوء، والإعلان عن الخفي، وإظهار المضمر إلى حيز التلقي، وهو ما يعني أيضا احتياج الخطاب إلى نوع من المغامرة النقدية التي تتجاوز التقليد المألوفة ما كان منها تراثيا أو وافدا واستخلاص توجه يوافق طبيعة الخطاب ، دون انغلاق مطلق، أو انفتاح مطلق ) (3)
والمتابعة الأسلوبية تتكئ على منطلقين أساسيين هما : الاختيار والتوزيع، على معنى أن المبدع في مرحلة أولى يتوجه إلى مخزونه اللغوي، وإلى حقول المعجم والدلالة ، ليختار من بينها دواله التي يوظفها شعريا، وفي مرحلة تالية يدفع بهذه الدوال إلى السياق لينشئ التراكيب وبين العمليتين علاقة جدلية لا تتوقف فالتفكيك والتركيب يكونان صلب العملية الإبداعية والنقدية .
ولأن الدراسة تتكئ على شعرية السبعينيات في البحرين والجيل التالي لها فلابد ان نشير إلى احتكام المنهج – بالضرورة – إلى أساسيات إبداعية لها حضورها الواضح في هذا الخطاب الشعري وهذه الأساسيات رصدها الدكتور محمد عبد المطلب في اصطلاح نقدي أطلق عليه : (التوجهات الإشراقية) وهو يعني الخلاص من الجسدية للوصول غلى النفسانية ، ومن ثم يقتضي التعبير عنه نقل الصياغة – أيضا – من ماديتها إلى تكوينات إشراقية فإذا أردنا بلوغ أبعادها الدلالية، لا بد من ردها إلى ماديتها مرة ثانية، وهذا الرد يقودنا إلى ثلاثة مراجع: المرجع المعجمي، المرجع الرمزي، المعاني الطارئة والتعامل مع هذه المراجع يحقق قدرا كبيرا من الكشف عن نظام الخطاب وكيفية إنتاج الدلالة، وفي مرحلة تالية يتم رصد السياق وعلاقاته التركيبية، وكيفية توافقها مع هذه المراجع أو تنافرها معها، حيث تكتمل دائرة الكشف عن المستويين الإفرادي والتركيبي (4)
وبناء على ما تقدم قمنا بتقسيم الدراسة إلى ثلاثة أقسام: يمثل أولها مدخلا لبيان تصورنا النقدي لمصطلح (شعرية المنفى)، والتفرقة بينه وبين مصطلح (شعرية المهجر)، ويحاول الثاني أن يطرح فرضا نظريا حول البنية الشعرية وطبيعة العلاقة بينها وبين الواقع السياسي العربي والبيئة الأنطولوجية وإفرازات كل منهما شعريا وتأثيرهما على اللغة التداولية.
ومحاولة الإجابة عن سؤالنا الأساس- وهو ما طرحه بول شلؤل- وهو : هل تمكنت القصيدة العربية (الحديثة) عبر علاقاتها بالفنون الأخرى من أن تمتص عناصر تلك الفنون، أي أن تحولها إلى مادة أولية تستخدمها في بنيتها؟ وهل استطاعت أن تحملها كبنى مستقلة ، وتجعلها نسيجا في لغتها الشعرية الخاصة؟ أم أن العلاقة كانت على خلل فأحدثت شروخا في بنية القصيدة فانتصرت بذلك الثنائية؟
بينما يتجه المحور الثالث إلى محاولة تطبيق الفرضية السابقة الذكر على النص الشعرلقاسم حداد والمصاحب للوحات إبراهيم بوسعد في ديوان (إيقاظ الفراشة التي هناك)
إن العلاقة بين الشعر والفن التشكيلي علاقة متجذرة و قديمة لم يتمكن تاريخ الفنون من الجزم ببداية هذه العلاقة تاريخيا ولكنها تأصلت و ازدهرت في أوربا على أيدي الدادائيين والسرياليين فظهرت لوحات لجان ميرو كتشكيل مواز لقصائد رينه شار واهتم الفنان التشكيلي برك بصياغة بعض قصائد أبولينير واشتغل موندريان على قصائد سنجور وقد حاول بعض الفنانين التشكيليين بناء علاقات عضوية بين الفن التشكيلي والقصيدة وبتعبير بول شاؤل (أن تصبح اللوحة قصيدة مرئية أو تصبح القصيدة لوحة مرئية) ومن هذه التجارب رسوم ليونار باسكين لإلياذة هوميروس .
وعلى المستوى العربي شاهدنا وجوها متعددة لهذه العلاقة نذكر منها: لوحات الفنان العراقي جواد سليم في تناصها وتوازيها مع قصائد كل من حسين مردام وضياء العزاوي الذي اتخذ من هذه المحاولة شبه اتجاه له حيث اشتغل على قصائد من الشعر الجاهلي ويوسف الخال ويوسف الصائغ وبلند الحيدري ومحمود درويش. وهناك تجارب عربية أخرى كانت أكثر عمقا وتواصلا وكانت بمثابة مخيلة نقدية تشكيلية مختلفة ومغايرة لقراءة النصوص الشعرية المنجزة مسبقا تقف منها في المقدمة تجربة التشكيلي اللبناني محمد الزيباوي الذي استطاع إدخال مقاطع من قصائد أنسي الحاج وأدونيس وبول شاؤل وسمير الصائغ في بنية لوحاته التشكيلية وسار على نهجه التشكيلي الأردني محمد العماري في تجربته مع بعض الشعراء الأدرنيين.
وتعتبر محاولة التشكيلي إبراهيم بوسعد من أنضج المحاولات التشكيلية التي حاولت فك شفرات النص الملتبس والحداثي خاصة وأنه اشتغل على قصائد قاسم حداد الذي يعتبر من أهم الشعراء العرب الذين مروا بتجارب فادحة على مستوى الشكل الشعري والبنية التركيبية للقصيدة وقد التقى بوسعد قاسم حداد – تشكيليا – مرتين: الأولى: كانت في معرض (وجوه) عام 1997بمصاحبة الموسيقي خالد الشيخ والمخرج عبد الله يوسف 0و الثانية كانت مع ديوان (إيقاظ الفراشة التي هناك)عام2002
مدخل/2 شعرية المنفى وشعرية المهجر:
يعد ادوارد سعيد صاحب أول محاولة لتأصيل مصطلح (المنفى) تاريخيا وواقعيا حيث يرى (أن المنفى أمر دنيوي على نحو لا براء من ، وتاريخي بصورة لا تطاق وهو فعل بشر بحق سواهم من البشر، بل هو شأن الموت)(5) وكثير من التجارب الإبداعية التي أنتجها المفكرون والأدباء المنفيون لم يتمكن ما يُعرف بـ(أدب المهجر) من تقديمها لنا بصورة واضحة أو حتى استقبالها على سطوح مرايا الذات الإنسانية وذلك لأن واقع المنفى أوسع من النمذجة التي يقدمها أدب المهجر.. (إنك كيما تركز على المنفى بوصفه ضربا من العقاب السياسي المعاصر فلابد أن ترسم خرائط لنطاقات من التجربة تتعدى تلك التي يرسمها أدب المنفى ذاته)(6) وهناك نوعان من المنفى لا ثالث لهما : الأول : منفى فعلي وهذا خارج نطاق دراستنا، والثاني منفى مجازي وهو يشير تحديدا إلى المثقفين المنتسبين إلى وطن (ما) ويعيشون بداخله وهم منفيون فيه ومنبوذون من حيث الامتيازات والسلطة ومظاهر الحفاوة والتكريم.
إذن لا مفر من سلطة المنفى ومحفزاته كما يعتقد ادوارد سعيد ويصر على أن الهوية الإبداعية هي نتاج صيرورة الواقع ليس غير . وأن حركة النقد أو تمثيل الواقع نقديا هي بنت حركية المنفى؛ لأن بمقدور المنفى أن يولد الضغينة والالتياع، غير أن بمقدوره أيضا أن يولد رؤية حادة وماضية؛ فما خلفه المرء وراءه يمكن أن يكون مثارا للندب والتفجع كما يمكن أن يستخدم في توفير مجموعة مغايرة من العدسات للنظر . ولأن المنفى والذاكرة يسيران معا تقريبا فإن ما يتذكره المء من ماض والكيفية التي يتذكر بها، هما ما يحددان كيفية رؤية المرء للمستقبل. فالمنفيّ يعيش معظم حياته ليعوّض عن خسارة مربكة، وليخلق عالما جديدا يبسط سلطانه عليه؛ ولهذا السبب نجد من المنفيين الكثير من الروائيين والمفكرين والناشطين السياسيين فمن هؤلاء لا تتطلب سوى حد حد أدنى من توظيف الحركة والمهارة.
فحياة المنفى تسير حسب روزنامة مختلفة، روزنامة أقل فضولا واستقرارا بالقياس إلى حياة المواطن العادي، فالمنفى حياة تُعاش خارج النظام المعتاد، حياة مترحلة، طباقية بلا مركز وما إن يألفها الإنسان ويعتاد عليها حتى تتفجر قواها المزعزعة من جديد. والمثقف المنفي فعليا أو مجازيا يعيش حالة من الوسطية فلا هو ينسجم تماما مع المحيط الجديد و لاهو يتخلص كليا من عبء البيئة الماضية، تضايقه أنصاف التداخلات، وأنصاف الانفصالات؛ إنه تشوقي وعاطفي من ناحية ومقلد حاذق، ومنبوذ لا يعلم به أحد من ناحية أخرى . ومع ذلك فإن للمنفى فضائل وخاصة إذاكان في بلدان (الآخر) منها: بهجة الإصابة بالدهشة ، ومتعة عدم التسليم جدلا بأي شئ، ولذة التعلم ، والنزعة إلى رؤية الأمور كيف تطورت والميل إلى فحص الأوضاع وكأنها ممكنة الحدوث لا محتومة واعتبار النتيجة الناجمة عن سلسلة من الخيارات التاريخية حددها بشر لا كأوضاع فطرية من نعم الله (7)
النفي خلاف الإثبات وهو يعني عند الصوفية، محو صفات الذات وإبطال مراد الإنسان لصالح مراد الله وينطوي النفي على استبعاد الاختيار من جهة، وتقويض مظاهر الوجود الشخصي أو نقضها من جهة ثانية (8) يقول قاسم في (عشاء المحبة) (مائدتي مفتوحة لعابري السبيل / للصعاليك والزنج والخوارج والدراويش واللصوص/ والمتصوفة والقرامطة والقراصنة / والذين يسألون ويشكون/ وليس لسيوفهم غرف غير الصدور / كسيف من الله جاء / إلى الله يذهب (9)
وقد يكون النفي بالسلبية على نحو من الانحناء؛ حيث تمثل السلبية اتجاها يتسم بفقدان التعاون والامتثال والخضوع، نتيجة للتعارض الناشئ بين المعايير المفروضة والمفهوم الذاتي أو القيمة أو المكانة كما تتصل السلبية بالاغتراب الذي يعني في أحد مستوياته، انفصال الفرد عن المفهومات والمبادئ السائدة كما يعني في مستوى آخر انعدام القوة بما هو الشعور بفقدان القدرة على التأثير في المواقف الاجتماعية المحيطة كما قال أبو بكر الشبلي: لو قبلني العالم بمن فيه لكانت مصيبة عليّ؛ إذ لو لم يكن شربهم شربي وذوقهم ذوقي، لم يقبلوني (10)
وهذا النوع من النفي السلبي عبر عنه قاسم حداد في قصيدة (النهروان) بقوله: (يمشي خارج التقويم):( يمضي شاهقا يفضي لجنته التي اشتهى / يؤآلف أم يخالف/ أم يؤدي طاعة للطقس في ردهات هذا الكهف/ لا تسأل / فقد أضحى بعيدا نحو جنته / وحيدا صار في حل من التنظيم/ لن يُصغي لن يصغي لمنعطف اللغات، تراثه تيه/ ويخرج من جمال رماده شَعب الشظايا/ شهقة القنديل/ جلجلة الكتابة والصدى/ وفضيحة التنجيم/ يمشي خارج التقويم (11) إن نزعة النفي هنا تتخلص من مثلث الحذوف الناشئ عن ثنائية الذات والعالم، لتجد مستقرها في وحدة الوجود القائمة على رد كل التعارضات الظاهرية في الوقائع المجزأة إلى ماهية واحدة مجردة تتدفق في ذاتها، من ذاتها، إلى ذاتها، بذاتها، فتشف وفقا لتعبير جان جيتون عن تواز أوليّ تام غير منكسر، ينسجم في كليته انسجاما مدهشا لأنه لا يعرف السوى (12)ولكن نزعة النفي تجد منتهاها في فلسفة الاعتراض الواضح على الظلم الاجتماعي والاستبداد السياسي، وكل ما ينضح به الواقع من شهوة للسلطة والنفوذ، وحب التملك والاحتكار وغرور وقسوة وأنانية وتنافس وخداع وخسة وقد تجلت هذه النزعة بكل وضوح في قصيدة قاسم الطويلة: (سألوه :واشتبكت جيوش فوق جثته : تلائم أو تقاوم / طينة الجسد الرمادي احتمت بسلالة الشورى: تقاوم أو تلائم/ طينة الجسد الطري تجاسرت/ عبرت بلادا كالشواهد ، راودتها شهوة المنفى:/ لكن ما الذي يبقى/ تُقام لأجلك الرايات / موتٌ سيد / ستكون عبدا عندما لا تنحني في ظل قوس النصر/ يبقى، ما الذي يبقى؟/ تقاوم أو تلائم) (13)
وتتولد من نزعة النفي نزعة الاغتراب كأنها قيم تتناسل عبر فضاءات النص الشعري لدى قاسم حداد ولكنه اغتراب بمعناه الصوفي يرجع على ازدراء الذات لحاضر الوجود، وازورارها عنه، والتسامي عليه، بغرض الوصول إلى أهلية التحقق في وجود آخر، يقع فيما بعد هذا الوجود، ويتصف بالجمال والعدل واللاتناهي (14) وقاسم حداد بذلك غريب عن العالم، مغترب فيه وبه؛ فالعالم ليس بيته بالتعبير الوجودي لأن الفلسفة الوجودية بشكل خاص تجعل من التمرد على سلطة الحشد شرطا ضروريا من شروط التحرر الإنساني.
ولاشك أن الاغتراب الفلسفي لدى قاسم حداد اغتراب إيجابي؛ لأنه في نهاية الأمر يصب في تيار الوعي والطموح الإنساني الذي يستهدف خلق الفردوس الأرضي، حتى ولو كان في النهاية ضربا من ضروب اليوتوبيا . فهو يسعى نزع الطابع المؤقت عن الأشياء وتحطيم قدسيتها الزائفة ليعيد خلقها وصياغتها بصورة تتسق مع قيم العقل والنزوع الإنساني نحو الكمال .
وهذا النزوع في حد ذاته نوع من التمرد على اللحظة الراهنة، وثورة دائمة للذات على ذاتها وعلى النقص الكامن في قلب الوجود. والذات لا تستطيع أن تفعل ذلك إلا بعلوها على وجودها الجزئي ورفضها الإذعان لسلطة السائد والمألوف من الأشياء وقد يكون التساؤل حول علاقة الغريب مع ذاته سؤالا جوهريا، خاصة إذا تذكرنا أن غريب قاسم حدلد مستوحد مع ذاته ومغترب عن الآخرين (فإنه على هذا النحو يحقق رغبة إريك فروم في أنه ليس ممتثلا للآخرين ولسلطة الحشد وبالتالي فليس مغتربا عن ذاته، غير أن النتيجة التي التي يصل إليها (قاسم حداد) مختلفة تماما عن النتيجة التي وصل إليها فروم: فغريب قاسم حداد لم يتنازل عن ذاته للآخرين، ولم يفقد تمايز هذه الذات واستقلالها بالانغماس في المجتمع ولكن مع هذا فإن هذه الذات هي مصدر عذابه وبلواه وهي قدره ومصيره الذي لا مفر منه. إنه لا يستطيع السيطرة على هذه الذات لأنه في حالة خصام دائم معها . ولهذا فإننا نميل إلى القول بأن علاقة الغريب (قاسم حداد) بذاته علاقة اغتراب، وهي حالة خاصة تعني إحساس الإنسان بأنه لا ينتمي إلى هذا الوطن (15)
فها هو يقول في المقطع الخامس من قصيدة (فهرس المكابدات:(رأيت قاسما/ يدخر القتل لأسمائه/ رأيته/ كأنما الكلام من مائه/ قرأت تاريخا، تهجيته مثل بكاء البيت في آلهِ/ قال لهم: بيني وبين الغابة مسافة/ بيني وبين الأسلحة مسافة /بيني وبين القطيع مسافة/ بيني وبين الله نص مكتوب / لا يخرج عنه/ ولا أخرج عليه / يقف في بهو الكون وحيدا /ليس ثمة هواء/ عيناه محتقنتان لفرط الهلع ورئته تضطرب/ تكسوه زرقة الليل / وكلما حرك حرفا انتابته المعاجم وتبادله النحاة/ شهادة الليل عليه : جميل / مثل غريب يدخل البيت فيضيئه (16)إن قاسم حداد هنا تبادل مع الفيلسوف المواقع ربما لفساد الأمكنة وربما لارتباط الفلسفة بظاهرة الاغتراب بل هي نتاج الاغتراب بتعبير حسن محمد حماد والاستدلال على هذا الافتراض يكون من خلال عدة قرائن : فالفلسفة وليدة الدهشة، والدهشة وليدة الغربة والغربة وليدة الإحساس بالمسافة بيني وبين الأشياء .
وطبقا للمنطق الهيجلي: (إن المعروف مجهول لأنه معروف)، فالدهشة وفق هذا المعنى هي أن نرى الأشياء كأننا نراها للوهلة الأولى وهذا ما يجعل الشاعر/الفيلسوف ينفصل عن تيار الوعي اليومي كي يقف متأملا وحائرا ومتسائلا تجاه أية ظاهرة لماذا؟ لأن روح الفلسفة هي الانفصال والعزلة فلا يمكن أن نمارس التأمل الفلسفي ونحن مستغرقون في الأشياء الجزئية، ومتطابقون مع الواقع القائم، ومستسلمون للحشد (17) وقد تتوافق غربة أبي حيان التوحيدي مع غربة قاسم حداد فكل منهما لم ينفصل عن روح عصره بل هو في صورته المرعبة تلك إنما يمثل صدى لروح العصر المشوهة ورد فعل مباشر لإيديولوجية القهر التي سادت هذا العصر. إن غربة الفيلسوف والشاعر غربة رفضت التطابق مع الواقع القائم ما ظل هذا الواقع يستأصل إنسانية الإنسان. رفضت أن تكون امتدادا لأية سلطة (وقد يقول قائل: ألا يتناقض ارتباط اغتراب (الشاعر والفيلسوف) بظروف عصره مع مفهوم الاغتراب الوجودي بوصفه ظاهرة كامنة في نسيج الوجود الإنساني، وبالتالي فإنها ليست مرتبطة بالواقع الاجتماعي قدر ارتباطها بأحوال الوجود الإنساني ذاتها؟)
وللإجابة على هذا التساؤل يقول حسن محمد حماد: إن النظرة إلى أحوال الوجود الإنساني بوصفها نسيجا مستقلا عن أية مؤثرات خارجية نظرة مثالية ساذجة، وإيماننا بالظواهر الوجودية الكامنة في أعماق الإنسان: كالاغتراب والقلق، والعدم، والناس والأمل..إلخ. لا يتنافى مطلقا مع إيماننا بدور الظروف الاجتماعية والاقتصادية في تفجير تلك الظواهر واستدعائها من أغوارها السحيقة؛ فهذه الظواهر توجد في كل العصور لكنها قد تكون أكثر ظهورا وبروزا في عصر بعينه وأقل في عصور أخرى؛ لأن وجود مثل هذا العصر معناه نهاية التاريخ، والتاريخ لم ينته بعد (18)
إن التوجه الحداثي عند قاسم حداد بكل تجريبيته وغموضه وبكل ثرائه وتعدد نواتجه كان له مبرراته التي تكاد تتوازن مع حداثية الفن التشكيلي في البحرين وبناء عليه ى نستطيع أن نفصل بين هذه التوجهات الشعرية الحداثية ع قاسم حداد وجيله وتلاميذه وما وفد على الساحة من تيارات تشكيلية رمزية وتجريدية وانطباعية . لقد استطاع الفنان التشكيلي الحداثي إبراهيم بوسعد أن يحرك فينا البلبلة وهو في حالة إشباع حقيقي لرغباته الفنية فجاءت شخوص لوحاته المصاحبة لنصوص قاسم حداد تتاقطر حزنا وقاده طموحه إلى استخدام الحرية بشكل زلزالي صريح، مواكبة للإيقاع السريع داخل النص الشعري ونحسب أنها مغامرة حتى ولو ارتج البناء التشكيلي ككل وكأننا داخل سفينة توقفت في منطقة دوار البحر.
وانطلاقا من هذه فليس مستغربا أن يحاول فنان تشكيلي حداثوي من فصيلة إبراهيم بوسعد قراءة نصوص قاسم حداد بالفرشاة والألوان لتصبح اللوحة الموازية للنص (قصيدة بصرية) وكائنا يتناص مع الجملة الشعرية إن لم تكن نصا مقابلا . لقد تمكن إبراهيم بوسعد من معايشة نصوص قاسم حداد بحب خاص مع إحاطة بارعة بالأحداث والمفارقات التي صاحبت كتابتها وتفاصيل حياة صانعها الذي عاش معه حياة واحدة في حواري وأزقة (مدينة المحرق) المتشابهة شوارعها وبيوتها في كثير من الأشياء وفي تكوينها المعماري والاجتماعي. ولكن يبقى قاسم مختلفا (فتكوينه النفسي جاء من المآتم الحسينية وأحياء وجدران المحرق فحاسته السمعية تربت على الخطب الحسينية وانعكست على موسيقى شعره . وأول زيارة له لمرسمي-والكلام لإبراهيم بوسعد- تحسس لوحات (وجوه) وحدثني عن تشابهها مع جدران المحرق، مما يشي بحاسة بصرية مرتبطة ارتباطا رهيفا بالمكان الأول(19)
ونجح إبراهيم بوسعد في تتبع مسار قصائد قاسم حداد وتناميها وتشعبها وتشظيها محاولا إبراز النواحي الإنسانية وهي نواح يتميز فيها الصراع الذاتي بين الفنان ونفسه، بين حاجته الإبداعية وحاجته المادية وبينه كصاحب رؤية جديدة وبين المجتمع الذي من شأنه أن يقاوم هذه الرؤية ولكنه عاصر الفجيعة التي انكفأ عليها الشاعر فأحس بمرارة التجربة تسيل من بين الكلمات (بحكم قربي من تجربة قاسم الشعرية، ليس من العبث أن تستوعب من اللحظة الأولى ما يعنيه في لحظة الفتنة والانبهار والحيرة. ولست معنيا بترجمة أفكاره، بقدر ما يعنيني صهر هذه الأفكار وإظهارها بشكل آخر، لأنني لا أرى عبارات وجملا وكلمات، بل أرى عالما آخر أحاول دخوله واكتشافه ومحاورته . وفي هذا المقام يجب الإشارة بأنه النص هو المحرض الأول للوحة. بمعنى أن اللوحة في إطارها المربع جملة وتفصيلا مستوحاة من النص . فالنص هو البداية (20)
ومن هنا يكون إبراهيم بوسعد قد طبق مقولة كارلايل :(إذا تأملت الشيء ونظرت إليه بعمق وتفحصته فإنك حقا ستستمتع بموسيقاه لأن النغم يكمن في قلب طبيعة الأشياء) ومستفيدا من محاولة بطليموس في القرن الثاني الميلادي للربط والتمثيل والمقابلة بين الصوت واللون وقد توصل إلى أن اللون لا يرتبط بفن التصوير فحسب بل يتعداه إلى فنون النحت والعمارة والشعر والموسيقى فاستعمل ألوانه بحكمة ودراية وخلط بينها بمقابلة أكثر مادية وواقعية متأثرا بموسيقى القصيدة لدى قاسم حداد باعتبارها (الحركة في الزمن وهي التي تحول الصورة أو اللوحة الساكنة في المساحة والفراغ إلى رؤية موسيقية ورؤية متحركة أو بمعنى آخر رؤية جمالية ذات إحساس كامل متحرك وهذا ما جعل الاهتمام يتزايد بمصاحبة الصورة المعبرة بالصوت فالمزج الفني بين ما هو مرئي وعقلي وسمعي يجعل الحقيقة أكثر تكاملا والحس البشري أكثر نضجا وأقرب إلى الطبيعة الأم وإلى الحقيقة ذاتها (21) فثمة علاقة بين الصوت واللون تقوم على ارتباطات وجدانية نفسية ومدلولات فسيولوجية تخضع لما يسمى بظاهرة (السناس ثيزيا).
وعلى طريقة المستقبليين (شعرا وتشكيلا) ينطلق إبراهيم بوسعد في لوحاته داخل ديوان (إيقاظ الفراشة التي هناك) لقاسم حداد بدافع تحريضي أضرمته في ألوانه وفرشاته نصوص حداثوية يردد (إننا لا نريد أن نقتصر على الملاحظة والتحليل، بل نريد أن نتوحد بالأشياء) ولوحاته تمثل ثورة ضد (اللوحة ذات الأبعاد الثابتة وما تسببه من معوقات للإنسان المعاصر الذي يجب أن يكون انفعاله حركة واستمتاعه موازيا لرؤية الشاعر الذي يقرأه) (رافضا سكونية اللوحة مستوعبا الأمن الداخلي والخارجي بمقدار حركة الذراع أو الرأس أو صوت الموتور (واتباعا لمنهجية الفنان التشكيلي الحداثوي يعد إبراهيم بوسعد نفسه (منهجا) جديدا يجب أن يتعلمه الآخرون- في قراءة الشعر بالفرشاة، بمن فيهم النقاد، قبل البدء في أي حوار مما يزيد من احتمال رفضهم لقيمة النقد نتيجة فقدهم الثقة بالقيم كلها وعجزهم عن تفسير ما يدور حولهم يوميا(22)
عندما نقرأ لوحات إبراهيم بوسعد المصاحبة لقصائد قاسم حداد في ديوانه (إيقاظ الفراشة التي هناك) نرى هناك أثرا لظاهرة الاغتراب والمنفى تمثلت في عد مقاطعته شخوصه تبعا لخلفية ذات خاصية معينة أو إطار عابر خاص بل باعتبارها قيما ثابتة لا تتزعزع فقد أخضعها لاختبارات لا تنتهي على خلفيات تجريدية من ابتكاره ولم يعد يهدف إلى الفصل التحليلي للعناصر المكانية الواضحة بل في هدي انفعالاته وردود فعله الخاصة سبر أغوار ما قد يسمى بسيكلوجية المكان وتتمثل حالات القنوط لديه والهواجس المسيطرة عليه في الالتواءات الدرامية التي أخضع لها شخوصه والموحى بها بالكتل لا بالتضاريس وفي فرحه الخلاق بجعل رسومه تتوهج كالجوهرة فالأشكال والألوان تتلاحم لديه في نوع من التعبيرية المذهلة
فقد أعرب إبراهيم بوسعد – على طريقة (سيزان) في أن ينضم إلى يد الطبيعة الهائمة باستخدام تقنية لونية وظفها بحرية مدهشة فاختفت التحديدات والكتل البارزة وصار شعاع الضوء يُنقل إلى قماش اللوحة بحركة متواصلة لا تُرى إلى مستويات شفافة تتعشق وتتوحد كموجات ضوئية معقدة فرسمه صار موسيقى خالصة.
ولوحاته تعبر عن اكتمال أسلوبه ونضجه من خلال الوحدة التي حققها بين الأحجام والأضواء فالأحمر شعلة الحياة يسود كل لوحاته في عمق وغنى لا حد لهما وفي تنويع لا نهاية له من التظليلات إنه يسعى إلى اكتشاف العالم الحقيقي لقاسم حداد من جديد ولتسجيل الحياة اليومية والمشهد المعاصر ولكنه انتهى إلى فورة غنائية محمومة على طريقة الانطباعيين وإلى أولية خالدة وإلى بوتقة من الألوان اللاهبة والأشكال المتوهجة واستطاع على طريقة بونار أن يحول الرسم إلى موسيقى من الألوان دون أن يقطع صلته بالعالم المرئي. واستطاع إبراهيم بوسعد إبداع لوحة/قصيدة بصرية جاهدا في تحديد الرؤية في (موتيفاته) دون جدوى فقد كان الضوء يلتهمها جميعا على الرغم من تقنيتها الهائلة فقد كانت في الأغلب ضحية التناقض الكامن في مؤداها وعب التألق الجزيئي لأية لوحة والذي قد لا يكشف عن الأشياء الكثيرة الكامنة بقدر ما يبرز الحيوية الخاطفة التي تمدها بالحياة استطاع إبراهيم بوسعد أن يستخلص تعبيرا رمزيا لهذه الحيوية الكامنة حيث أضحى التكوين كله للوحة عالما صغيرا يمثل الكون عن طريق الانتقال من الإيهام الجوي إلى التجريدات المنظمة وإلى انتصار الألوان النقية اعتمادا على إطلاق الأشكال والألوان من إسار الوظيفة التشبيهية وصار يُنظر غليها ببساطة باعتبارها عناصر بنائية للصورة بسطح ذي بعدين وبإيقاع عضوي خاص بها.
وهناك عدة ملاحظات على هذا الخطاب الحداثوي لدى كل من قاسم حداد وإبراهيم بوسعد تتماس مع التوجه الحداثي لخطاب السبعينيات بكل تجريبيته وغموضه ذكرها الدكتور محمد عبد المطلب في بحثه المقدم لمهرجان الشعر العربي الأول بالقاهرة نذكر منها:
- لقد تبلورت الظاهرة الحداثية عندما أصبحت اللغة هاجسا ملحا لدى الشعراء والتشكيليين
- لاشك أن حركة الحداثيين وجدت تربتها الخصبة في الظروف التاريخية التي صاحبت انكسار الحلم القومي والاجتماعي في ظروف بالغة الدرامية فكانت الشكلية أداة مستقبلية تحاول أن تعيد للكلمة بعض حقوقها المشروعة وتعيد للبناء الصوري أهميته كرد فعل لهذا المأزق الحضاري
- أصبحت الكتابة والرسم هدفا في حد ذاته وهو ما يشي بأن هناك مضمونا طارئا يحتاج إلى تشكيل طارئ يخالف ما سبقه
- تصور الحداثيون إمكانية وضع هذه المرحلة بين قوسين بحيث تكون المرجع المفجر للشكل الجديد وانكفأت الكتابة والصورة على نفسها فيما يشبه الشعور بالذنب لأنهم أدركوا أنهم متواطئون مع تيار اختزال الواقع في بعد أحادي عديم الجدوى فاندفعوا بعنف إلى حركة مضادة للتخلص من هذا الإثم الثقافي.