حينما يعود الشهداء.. وهم العائدون
يونس العموري | فلسطين
الفنان نيكولاي نينوف رسام بلغاري
قليلا من الصبر ، انتظروا الأقصوصة من أولها، هنا ارتقى الشهيد، وهناك كانت له رواية اخرى مع الحياة، وبدروب العشق كان ينتظرها، وبأزقة مدينته كانت له أحلام ورؤى وقد تكون اساطير، كان الشاهد على فعل الذبح لمستقبل بسيط ينتظره ولقبلة يختلسها عند غروب الشمس، تأهب بكل وقاره اختفى عن الانظار، وتاه بدروب الحقيقة ما بين الانتظار والمكوث عند بوابة بيت الرب ، صرخ صرخة مدوية بوجه من يعتلي منبر جعجعة المفردات النحوية محاولا الا يخطئ بقواميس اللغة العربية، وتجهم وجهه الجميل.
انتظروا قليلا… هنا النبي الفلسطيني الأول ابن البتول استشهد كشاهد على الذبح للمحبة منذ البدايات، ورابية الجلجلة بقيت الشاهدة على جريمة الصلب، وما بين ناصرة البشارة وارض الميلاد كانت مسيرة العذراء، وكانت القيامة، وبالسماء عاد المسيح كشاهد على الفعل والذبح والقتل بارض التاريخ … والطريق واحد فما بين القيصر وقاطع الطريق الأن تبدو الصورة واحدة، فمسيرة ال عمران من اقاصي الشمال الى مغارة الميلاد دروب شائكة وجند القيصر بالطريق يتربصون، وابناء يهوذا ما زالوا بالمكان جالسين يبحثون عن انبياء المحبة المطاردين بتلال وجنان المسمى وطن الغار والتين والزيتون…
حينما يعود الشهداء وهم العائدون دوما ينتظرون وينظرون لواقع اللحظة ويمضون، كأنهم يبعثون برسائل البعث مرة أخرى، هم اصحاب القرار وهم ارادة الفعل والفعل المضاد وهم من تصدى ويتصدون للعبث وللفراغ، ومن تحدى عبثية أصحاب القرارات الأخرى، والعسس كان أن جابوا الطرقات بحثا عن أحلامهم وأساطير أقاصيصهم، جاؤوا من البعيد نحو البعيد، وكان نداؤهم بعيدا أيضا، والتخريب للذات سيد اللحظة والموقف، والذات هنا هي الذات الجمعية الجامعة لجموع الرابضين على أرض زهر اللوز والزعتر البري النابت بين الصخور والروابي والتلال …
كان لهم القرار بالتصدي للقرار المضاد ممن يتقنون لعبة المراوغة والبزنس الجديد والإتجار بالأوطان والشعوب وبسطاء اللحظة، كان لهم الفعل بخربشة معادلات الأمن والآمان الوهمي، وإسقاط نظريات التمرد على الاستكانة، هم من صنعوا الارتباك للساسة المحترفين في لعبة الشد والجذب ومن أسقطوا الرهان على قولبة الأزمان وفق رغبات الآخر، والآخر هنا قد يكون القيصر المرتبك والممسك بالعصا والجزرة، ومن الممكن أن يكون من يحاول تطويع ارادة هؤلاء العائدين إلى الحلم، وإيقاظ النخوة..
حينما يعود الشهداء الى المشهد فكأنهم يصرخون بوجوه اللاهثين خلف سراب كاميرات البث لاستثمار الوجع ، يقفون عند الخط الفاصل ما بين الحقيقة والسراب وهم يدركون أحقيتهم وحقيقتهم ومرامي الفاظهم المسمومة حينما يحاولون بث سموم التطبيع والمعايشة والتعايش ما بين الشاة والسكين ، وللقادم مرة اخرى الى عرش المبادرة ويبحث بالدهاليز عما يسميه المبادرة المباغتة الجديدة والتي قد يسميها (مبادرة اللحظة من القبلة العتيقة) لإعادة زمام الإمساك بالتسوية السياسية وهو يدرك موت المبادرات والتسويات وهي كما بعض الغيوم قوية الرعودِ شحيحة المطر، والموقف المبدئي المبني على الحق للفلاح بحراثة ارضه والحرية للزرع ان ينمو وللحصاد ان يكون وللزهر ان يتفتح ، ومنهم من يزمجر بأعتى العبارات من شاشات الطرف الأخر ، المتحدثين باللغة العبرية وبعض من عربية ركيكة ويعلو صوته بالشطر الغربي من (أورشليم) وكانه الفاتح المُبشر به من جديد ..
حينما يعود الشهداء ويقفون على أطلال الأمكنة فثمة رسالة ومعنى للوقوف ولابد من القول البليغ المبين، الذين خطوا بأقدامهم دروب سھول الأرض العطشى للأحمر القاني … وسطروا ملاحم الأقاصيص والحكایا، والدمار سيطر ويسيطر على المشهدية الراهنة، فالواقع بات مسموما حاقدا لكل الفعل والافعال الماضية منها والحاضرة، والمستقبل أصبح الغائب الجاثم على الصدور بالخوف السقيم من الجوع والتجويع والذي بات الهدف للقابعين والمحشورين بيوميات احلامهم ….
انتظروا قليلا فالرواة مختلفون وسرد الحكاية تتأول وفقا لأهوائهم، فمنهم من يقول ان الشهيد سقط سهوا وتناسوا انهم اصحاب القرار ومناجاة الرب بلحظة الارتقاء تكون لهم وبقرارهم وبإرادتهم بمواجهة من يغتال الحلم الفاصل ما بين الحقيقة والسراب.. وهو القرار بالحياة ولتكون ممكنة …
حينما يعود الشهداء وينظرون الى الوجوه هل من الممكن ان يتألموا …؟؟ او عساهم بالصمت يلوذون …؟؟ والسادة المتربعون على العرش ماضون بصناعة فنون التسوية لصراع وردة الجوري مع فأس الاقتلاع ، والعابث بقوت ذويهم والطارد للبنين من المشهد والصامت عن هدم العرين لمن كان يؤوي أبطال الأزمان ..
حينما يعود الشهداء وهم العائدون باستمرار ، تكون للعودة فلسفة اخرى بمفاهيم الفعل فهم وحدهم قد اضحوا الرموز وصاروا الأيقونات والتعويذات المرتلة ترتيلا بمعابد المتضرعين لسداد رمق العيش والمتصارعين مع وجودهم وأحقيتهم بالحياة في ربوع التين والزيتون والبلد الأمان المطمئن بعيدا عن غدر فنون التسوية الواعدة برغد العيش في ظل الأحرف العبرية الدالة على امتهان كرامة العابرين ليلا للبوابات المتشابكة والفاصلة ما بين العاشق وأنثاه القابعة بالشطر الآخر من الأسوار العاتية العالية …
يداهمنا الشوق للاشتباك مع حقيقتنا، ويداهمنا الشوق لكرامة الأنبياء ومنهم نتعلم ونسطر معانينا ومرامي مفرداتنا، ونتوق للعيش في فسحة الأمل من عطاء عودة الشهداء الى المشهد وهم العائدون بابتسامة محيرة مقلقة لمن يتربص بصرخة الطفل القابض على لعبته في الدروب العتيقة..
ايها السادة بكل مواقعكم وبمختلف مناصبكم وبصرف النظر عن صراخكم الأجوف، لن يكون لكم الإنجاز سوى الخراب، فالشهداء يتربصون بفعلكم وافعالكم وسيعبرون الى ثنايا ايامكم ولحظاتكم ويقضون مضاجعكم فقد كان لعبورهم الى ھذا الشمال بھدف قول كلمة یحفظھا التاریخ.. وكان لمكوثھم ببطن الأرض الحبلى بشقائق النعمان بھدف تعریة تاريخ اغتصاب فراشات زھر البرتقال، وبعودتھم الدائمة تدوینا لروایة تارخ عشاق الحیاة، فموتانا یحضرون عند كل ابتسامة طفل یمارس لھوه في حواري مدینة الاسوار ویأتون عند كل صبح مع قطرات الندى … ھذه الحكایة من اولھا … وھذه قصة من عبروا یوما .. فقد حلموا بلیلة بحضن الجبل المنتصب شموخا على شاطىء حیفا وبمعمودیة بمیاه شواطىء یافا، وكانوا ان سمعوا نداء حفیف اوراق اشجار الصنوبر، ونعیق اصوات غربان لیل غریبة عن المكان وطارئة بتاریخ الزمان، فمنھم من ركب البحر وناجي القمر وشھد الموج على ملحمة سطرتھا أكفھم بعتمة لیل اضاءتھا انتصارات الحب المتشكل بین ضلوعھم على قسوة من عاثوا بالأرض فساداً، وكانت ان احتضنتھم ارضھم ورحبت بمن یأتون مھللین مكبرین مبتسمین فقد كانوا ھنا حیث وقف المسیح یوما مناجیا رب عرش السموات والارض لیشھدوا انبلاج حقیقة اشیائھم كما البتول مریم حینما أتاھا عیسى المخلص نصیر فقراء كل الأزمان …. جاؤوا لیرتلوا تعویذة جداتھم المعلقة بأفئدتھم منذ عرفوا ان ثمة وطناً مسیجاً بالغار والیاسمین وتنبت فيه أرواح الأنبیاء المتجولة ما بین قدس الجلجلة وناصرة البشارة، مأسورا بثنایا خرفات تاریخ قتلة الحلم، ومغتالي عصافیر البراري كونھا تشدو الصبح زقزقة عند أضرحة الشھداء …. أتوا عابرین ملوحین بقبضات ایادیھم، وساروا بدروب منابت الزعتر والمیرامیة وبكل خطوة بمسیرتهم تنهیدة وأمل بأن تتوالى خطوات العبور والتجوال … فهم الأن على أرض الله التي تسمى فلسطین … وكنعان حفر اسمها على صخور تأبى ان تلین … جاؤوا من كل المدائن … وحطوا ترحالھم ببراریها ومارسوا عشقهم لأول مرة تحت الشمس وقالوا كلمة من كلمات الرب بحضرتھا وامسكوا بشيء من حقیقتهم وعرفوا معنى ان تتوحد روحك بقلبك وبما تؤمن بها ایمانا مطلقا فكانت بالتالي الحكایة … من كل الأجناس كانوا عربا وعجما اتجهوا صوب شمس تلال الجلیل، وعزفوا سمیفونیة الخلود، حینما عبروا الأرض البكر اقشعرت ابدانهم وأدركوا سر ابتسامة الشهداء، فركعوا وصلوا ورتلوا من مزامیر كنعان، وبكوا وضحكوا وخاضوا معركتهم وحملوا أماناتهم وترجلت ارواحھم نحو السماء، مارسوا عشقهم فعشقتهم الأرض الطیبة وابتلعتهم ببطنها، واعداء النهار جاؤوا بهم وفتشوا بثنایاھم ورسموا شارات حقدھم على محیاھم، وزرعوا لھم ارقاما فنبتت اشجار الزیتون وتألقت اخضرارا … وظلت شاھدة على من عبروا … ھي قصص وروایات لأزمان كان فیها اكتمال لمعنى ان تكون عاشقا مقاوما، تجوب الأرض وتستجدي فعل العبور، وتنتظر حتى تأتیك البشارة وتتهيأ لیوم الولوج عبر الدروب والمتعرجات لتصعد الجبل الشامخ ھناك وتنحدر نحو السهل المخضب بدماء الأولین، لتستشعر تاریخھم وتعلم حینھا معنى ان تقاوم وتقاتل على أرض فلسطین …. انتظروا كثیرا، وظلوا بلا اسماء، فمنھم من قضى ببزتھ وبندقیتھ السمراء، ومنھم من ینتظر لحظة اعلان حقائقهم ..
حينما يعود الشهداء وهم العائدون دوما يوجهون نظراتهم الثاقبة المؤمنة نحو هذا الواقع المرير، وهو الشهيد الشاهد الصارخ ،( انا عصفور باب القدس اعبرها شهيدا) ..