عن أدب الشعارات والأدب الملتزِم
سهيل كيوان | فلسطين
يقسّم البعض الفنون والآداب إلى ملتزم وغير ملتزم، بل ويهاجم بعضهم أولئك الذين يعتبرهم غير ملتزمين ومشغولين بقضايا “هامشية”، بينما هو ملتزم ومنشغل في القضية الوطنية الأولى المصيرية.
إلا أن هناك هوةً شاسعة بين أدب الشِّعارات وأدب الالتزام. “أن تكتب بشكل جيِّد”، هكذا عرَّف غسان كنفاني الأدب المُلتزم.
أدب الشِّعارات يأخذك فورًا إلى المواجهة بالحجارة أو بالرصاص وسقوط شهداء وجرحى ومعتقلين ودخان.
الأدب الملتزم يحكي القصة الإنسانية والمعاناة النفسية لواحد من هؤلاء الناس، أو لبعضهم.
من أين أتى هذا الذي ينتظر دوره لعبور الحاجز وما هي خلفيته، ماذا ترك في بيته، وما الذي ينتظره ويتوقَّعه من وراء الحاجز! قد يكون خوفه على جبلة الباطون من أن تجف هو ما شاغَله، وقد يكون شاغِله محبس خطوبة، وقد يكون منتظرًا الفرصة للذهاب إلى خلوة يحتسي فيها زجاجتي بيرة!
الالتزام، أن تكون حقيقيًا في طرحك، خصوصًا عندما تكتب السِّيرة الذاتية، أو أحداثًا تاريخية، والتعالي عن لَيّ عنق الحقيقة لتلائم علاقاتك الشَّخصية أو نرجسيتك أو ميولك الحزبي.
لو أن كل من كتبوا عن المقاومة والشَّهادة وقتال العدو، كانوا صادقين في ما كتبوا لما كانت النَّكبة، ولما كانت هزيمة حزيران، ولو كنا صادقين وقلوبنا على بعضنا، لما وصل وضعنا إلى الحضيض السياسي والاجتماعي الذي نراه اليوم.
أدب الشِّعارات يطلق كلمات لها دويٌّ قويٌ، ولهذا يستميت كي يقف على مِنصّة، ليزمجر بقدر ما تسعفه حُنجرته، لأنه يخاطب الأذن والغرائز البدائية، ولا يخاطب العقل والبصيرة والنفس البشرية.
الأدب الملتزم هادئ مثل المياه العميقة، يلتقط الحالات الإنسانية لأبناء شعبه وحتى لأعدائه.
أدب الشعارات يستخدم كلمات رنانة مثل الصمود والإباء والكبرياء والشهامة والرجولة والدم والصليل والدويّ والشُّموخ… إلخ، بينما يريك الأدب الملتزم بعينيك وروحك ماذا يعني الصمود والإباء، قد يكون بنظرة، أو ابتسامة، وقد يكون بملامح طفل أبى أن يأخذ بضعة شواقل بلا مقابل، ويصرُّ أن يعطيك مقابلها قلم حبر، أو علبة ورق محتفظًا بكرامته.
أدب الشعارات يسيء للقضية التي يتبناها أو يدافع عنها، لأنه أدب خالٍ من المشاعر الإنسانية، وفيه ضجيج كثير ومُنفِّرٌ، مثل الولد الذي “يجيب (يجلب) لأهله المسبّة”.
صوت الأدب الإنساني الملتزم هادئ، لا يسمعه إلا من يصغي جيِّدًا، ولا يراه إلا من يعيش في أعماق الحالة وليس على سطحها.
برأيي أن أجمل مجموعات غسان كنفاني القصصية هي الأولى “موت سرير رقم 12″، الخالية تمامًا من الشِّعارات، بل يعترف أبطال الجُزء الأول من المجموعة بضعفهم وجبنهم.
أدب الشِّعارات يستبسل في مواجهة الاستعمار والإمبريالية والصهيونية والرجعية… ولكنه لسبب ما يغضّ الطرف عن المعاناة اليومية للإنسان في موطنه، الذي يكدُّ في الليل والنهار كي يعيل أسرته بشرف وكرامة، ولكنه يصطدم بنظام قائم على الفساد والرشاوى والتزييف والقمع والإذلال والاضطرار إلى الرَّدح لكل من هم أعلى منه في وظائفهم، كي يكونوا راضين عنه، وإلا فإنه من المغضوب عليهم.
أدب الشِّعارات يتحدَّث عن سحق قوى “الإرهاب والظلام والمرتزقة والمأجورين”، ولا يرى المُسبِّبات التي دفعت بعض الناس الشُّرفاء والأنقياء إلى اليأس والتدهور حتى الوقوع فريسة للتطرُّف والإرهاب.
أديب الشِّعارات يربح ثلاثة آلاف دولار في الشهر وأكثر، ويتذمَّر ويطلب المزيد، ولكنه يهاجم من يربح تسعين دولارًا، ويمنِّنه بثمن ربطة الخبز المنخفض، ويتهم من يرفع صوته بالجشع وحتى بالتواطؤ مع المؤامرات الخارجية.
أدب الشِّعارات يهاجم الجميع، ولكنه يرفض أي نقد يُوجَّه إلى أدبه أو إلى حزبه أو فصيله، ويتّخذ من الناقد عدُوًا، وينتظر الفرصة للثأر منه.
أدب الشعارات يُقَسِّم الناس، “يا أسود يا أبيض”، فمن معنا نحبُّه حتى العبادة ولا نرى عيوبه، ومن ضدَّنا نكرهه حتى الرمق الأخير، ولا نرى فيه مقدار خردلة من خيرٍ.
الأدب الملتزم يحكي عن القيم والمواقف الجميلة والإنسانية التي قد يكشفها حتى في عدوِّه، وقد يرى قِيَمًا رديئة وبحاجة إلى معالجتها لديه هو نفسه ولدى حلفائه.
كنت قد ظننت مثل كثيرين، أن أدب الشعارات قد ولّى واندثر وتجاوزناه منذ زَمن بعيد، ولكنه ما زال منتشرًا، وله هالات ومنصَّات ومنابر وألقاب ذات أهمية، أو يُفترض أن تكون ذات أهمية.