كلمات من خلف شغاف القلب..إلى مواطن سوري

محمد المحسن | تونس 
         
“..و دمشق الجسورة..لا تكترث بالجبناء..و مهما الرصاص يجزّ رقابا.. يظلّ على شفاه السوريين الغناء..” (مظفر النواب-بتصرف)
اقتادتك -دمشق – من يد روحك إلى فردوس الطمأنينة بل ربّما إلى النقيض.. وما عليك – بعد كل هذا الدّم، إلا أن تتأمل وتنتظر.
جرح مفتوح،وعدالة شائخة، وضمير إنسانيّ كسول وضرير.. لا يفعل غير أن يعدّ حصيلة الخراب ويتأفّف من وفرة دماء الموتى!.. وأيضا: ينتظر.
ضجرت ذاكرة التاريخ. ضجر الشهود. ضجرت الأسلحة والقوانين والمذاهب والسماوات، وضجرت أرواح الموتى.. لكن – وحدها – شهوة القاتل إلى مزيد من الدم.. لم تضجر! الدّم يشحذ شهية الدّم.
أنتَ الآن وحدك في عراء الخليقة الدّامي، تقذفك الرّياح الكونية من زنزانة.. إلى معتقل.. إلى هواء يتهدّم.. إلى أرض تنتفض.. إلى عدالة عمياء.. إلى قاض أخرس.. إلى ضمير أعزل وكفيف.. وإلى أمل يضيق ولا يتهدّم.. وعلى شاشة الملأ الكوني، تترقرق الدّمعة الأكثر إيلاما وسطوعا في تاريخ صناعة العذاب، وتعلو صيحة الضمير الأعزل المعطوب، دون أن تُسمَع..!
ودائما: ثمة شهداء يسقطون.. ودائما خلف القاتل، ثمة حلفاء وقضاة وجيوش.. وخلف الضحية.. العماء والصّمت.. وخلف العماء والصّمت.. شعب يقيم أعراسه على حواف المقابر: أعراس مجلّلة بالسواد ومبلّلة بالنحيب.. أعراس دم.
لكن..
ثمة أمل ينبثق من دفقات الدّم ووضوح الموت.. أمل يتمطى عبر التخوم.
وإذن؟
إذن،وحدك بإمكانك أن تحمل بين ضلوعك أملا وضّاء ينير عتمات الدروب أمامك.. ووحدك بإمكانك أن تقايض سخط الجلاّد الحاقد بكلمة الأمل الغاضب..فقد علّمنا التاريخ – يا إبن دمشق- أنّه في أحيان كثيرة يمكن للأمل الأعزل أن ينتصر على جنون القوّة المدرّعة..كما علّمنا كذلك،أنّ السفّاح-بما يريقه من دم-يحدّد الثمن النهائي لدمه.لهذا يمكنك أن تذهب بأحلامك من حافة الموت إلى حافة الحياة حيث سترى خلف دخان الجنون وجلبة القوّة:علمَ دمشق وشمسها ونخيلها وبساتينها وسماءها..وتحت سمائها تلألأ الرنّة السخيّة لفرح الإنسان..
هناك، وعلى التخوم الفاصلة بين البسمة والدّمعة،ستعثر على – دمشق الصامدة – وقد هيّأت لك مقعدا مريحا ونافذة مفتوحة وسماء صافية وظلا ظليلا..و رغيفا لذيذا.. وأنشودة نصر يرقص على إيقاعها أبطال ينشدون الحرية بجسارة من لا يهاب الموت..لتنزل ضيفا جليلا على مائدتها.. مائدة الشهداء.. والشهداء الأحياء: مائدة التاريخ.
ونحن!
نحن الذين نخبئ في عيوننا عتمات الأحزان..نحن من المحيط إلى الخليج أمام البحر المتوسط،تنتصب أمامنا حاجبات الوميض،نقرأ أوجاعنا ونردّد كلمات لم نعد نعرف أن نكتبها.
وأنتَ..أنت-أيّها السوري الجاسر-هل بوسعك منحنا قليلا من صبرك الرباني،فالرّوح محض عذاب؟..
لكن من أين سيجد الصّبر طريقه إلى قلوب الحزانى والمعطوبين؟! ومن أين سيسلك-المريد-دربه إلى محراب دمشق؟
أيها السوري الصامد:في غفلة من الزمن،أوقعتك القافلة سهوا عنك..سهوا عنهم..وها أنت ترنو بصمت إلى وجه دمشق..هذه التي إتخذت منها قضية حياتك وموتك..لا لأنّها أصبحت أردت ذلك أو رغبت عنه مصيرك الشخصي دون زيادة أو مزايدة،ودون نقص أو مناقصة..أصبحت هذه القضية المقدّسة قضية وجودك كفرد ينتمي إلى ما يدعى بالنّوع البشري،لا كوطن فقط أو كأمة،هي سبب حزنك أكثر من ست سنوات عجاف،لا بسبب أنّ-بلدك-مثخَن بالجراح،بل لأنّك مضطرّ كل يوم يمضي أن تجدّد لها البيعة ثانية علّها تخان.
ابن سوريا – الرابض على تخوم الجرح – لا تخف،فالمعركة ستجئ، لكن قبل الموعد أو بعده، ولأنّها مستمرة فأنتَ مطالب بأن تكون حاضرا متى تُطلَب وأينما طُلبت:إلى السجن،المعتقل، القبو الجهنمي، المستشفى الأكثر بياضا من العدم، المنافي المتحركة الأرصفة إلى المجهول.. وعليك الإستبسال أردت ذلك أو رغبت عنه، لأنّ دمشق قضية مقدّسة، من أجلها تؤمّم الديمقراطية، فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة، ودمشق هي المعركة،لذلك عليك أن تجيد سماع الصّوت وأن تبدع في صداه.
يا حفيد خالد بن الوليد:أنت تشيخ وليس الزمن. الزمن يشيخ وليس أنت. ولكن الأرضَ تدور كما تعلّمت في الطفولة. وإذا بك تدور معها وأنت تدري. ظللت ترفض وترفض وترفض سنوات طوالا،كان حزنك أثناءها يتلوّن أحيانا بألوان الطيف أو ألوان الورد.
بعد صبر جميل على القهر والظلم وجنون القوة، طفح الكيل وانفجر البركان فلم تجفل.
قاومت وصمدت،وكنت في المرآة عملاقا. لقد قلت”لا”بملء الفم والعقل والقلب والدّم،ظلّت دمشق قضيتك.دمشق العربية كلّها.
رأسك يدور،ولكن لا تتعب،قد تنسى قليلا ما يجري أمام عينيك لكنّك لن تهزَم..بعد قليل سيوقفك “إرهابي من حفاة الضمير”عند الحاجز بسؤال:حريتك أم حرية دمشق؟
وسيوقفك ثانية عند الأسلاك ويسألك:العدل لك أم لدمشق؟
أجبه بجسارة من لا يهاب الموت:دمشق.وهاهي دمشق العربية كلّها تقول لك لم يفقد عظماء التاريخ إيمانهم بالنصر وهم يعانقون حبال المشانق.فهل تفقد أنتَ إيمانك به في لحظة منفلتة من عقال الزمن؟!
أيها الشامخ في نضالك: أنا – كاتب هذه السطور – المقيم في الشمال الإفريقي، أنا الملتحف بمخمل الليل الجريح..أنا المتورّط بوجودي في زمن ملتهب..أعرف أنّ الوجعَ في سوريا ربانيّ، كما أعرف أيضا أنّ الفعل هناك رسوليّ، لكنّي لا أملك سوى الحبر، وما من حبر يرقى إلى منصة الدّم.
وحتى حين يمور الدّم في جسدي باحثا عن مخرج،فإنّي لا أجد سوى الكتابة.
الكتابة عن الشيء تعادل حضوره في الزمن، ووجوده واستمراره في الحياة. ولأنّ الأمر كذلك فإنّي أصوغ هذه الكلمات علّها تصلك عبر شيفرات الحرية، أو لعلّها تصل إلى كل زنزانة محكمة الإغلاق، وإلى كل معتقل عالي الأسوار، وإلى كل منفى داخل الوطن أو وراء البحار.وما عليك -أيّها الشامخ في نضالك-بل أيها الواقف على التخوم الفاصلة بين البسمة والدمعة إلا أن تحييّ-الثورة التونسية-التي ألهمت الشعوب العربية المعنى الحقيقي للحرية،ورسمت بحبر الروح على صفحات التاريخ دربا مضيئا يعرف آفاقه جيدا عظماء التاريخ وكل الذين ضحوا بأرواحهم في سبيل أوطانهم من الأبطال والشهداء منذ فجر الإنسانية:صدام حسين،سبارتكوس،عمار بن ياسر،عمر المختار،يوسف العظمة،شهدي عطية،الأيندي،غيفارا وديمتروف..وقد تجلّت في – ثورتنا الخالدة – كما في رفضنا الصارخ بطولة الإستشهاد وتجسّدت في مواقفنا الجاسرة آسمى أشكال الفعل الإنساني النبيل..
واليوم..
ها نحن اليوم نعزف للشعوب العربية لحنا مطرزا بالحرية والإنعتاق:
..هناك كثيرون أمثالنا
أعلوا وشادوا
وفي كل حال أجادوا..
ونحن كذلك ضحينا بما كان عزيزا علينا
عظيما..جليلا..وما عرف المستحيل الطريق إلينا..
لأننا نؤمن أنّ القلوب إن فاضت قليلا..
ستصبح رفضا..ونصرا نبيلا..
تمنينا أن يعيش شعبنا عزيزا كريما..تمنينا أن يرفع الظلم عنا..
لذا..
فعلنا الذي كان حتما علينا..
وما كان قدرا على المستضعفين جيلا..فجيلا..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى