العمارة العراقية و الإيرانية.. مقارنة في الريادة والاقتباس
د. علي ثويني | خبير ومعماري عماتي
يلمس المتتبع لفوضى المفاهيم التي تعم الثقافة العراقية ولاسيما المعمارية، الكثير من الإدعاءات والتلفيق والمبالغة في تكريس “مركزية” بعينها بعد أن تمددت وتعددت ،حتى أترع الأمر بالإدغام والتعمية إبان أزمنة الدعة الحضارية، بعدما مررت الكثير من المسوغات “الأقوامية” وفسرت التاريخ كما تشتهي، وخاصة بما يتعلق بالبنيان والفنون، التي تبقى الشاهد المادي الملموس لأحداث التأريخ، بل ودالة على إرتقاء الأزمنة والأمكنة. ولا يضيرنا حينما يتعلق الأمر بمنتجهم ، لكن الإشكال يكمن في مصادرتهم لمنجزنا، مستندين على أدلة واهية، رددها البعض بعيداً عن الوعي والإطلاع، أو جهلا أو إنحياز أو دعة، ومصادرها كتب صفراء من التراث أو إستشراق ممالي أو إستغراب تابع ،حتى أمست مسلمات ، ولم يبادر إلا القليلين في الرد الواعي عليها ودحضها بحجة الواعي دون تعصب.
أمسى بديهياً منذ عشرينات القرن العشرين أن حضارات العراق المتتالية تشكل الريادة في الكثير من جوانب النتاج الفكري والفني ،حتى أطلق عليها الإنكليزي (ليونارد وولي 1880 – 1960) (مهد الحضارات cradle of civilization)، بعد أن أطلع على لقى مقبرة أور، وما كشف بها من نفائس رياديه.
وربما رصد بأن أقدم عقد مبني في تلك المقبرة بني حوالي 3000 ق.م، وهو أقدم ماكشف في تأريخ الأمم، حتى أستنتج بأن العمارة العراقية هي من أثرى المدارس المعمارية في الدنيا، وربما رائدة لأكثر النتاج المعماري في العالم، حينما أستحدثت جل العناصر المعمارية الحاملة والمحمولة، المغلفة والنفحات الفنية، ابتداءا من إختراع الطوب والآجر، ثم بناء الهياكل بالحيطان الحاملة، ومناهج العقادة بالعقد والقبو والقبة، بل وأستجدت فنون الجص والفسيفساء والخزف الكربلائي ورسوم الجداريات(فريسكو).
ويكمن السبب إلى إفتقار البيئة العراقية لمواد بناء مقاومة، من حجر وخشب غابي، حتى جعل منها حقلا خصبا لسطوة الروح المبدعة والعقل والخيال الجامح، من خلال السجية التجريبية التي مكثت ثابت حتى اليوم .وقدعاضدها رخاء ووفرة غلة وعافية ولاسيما في أزمنة السلم، حتى تصاعدت وأزهرت من خلال عمليات الصقل والتهذيب والتشذيب والتجريب، وأمست رائدة لما نسميه اليوم (عمارة لاخشبية woodless architecture). أي أنها أحتات على الطين المهين لتحوله إلى قطع يمكن أن تسند بعضها، لتسرب العزوم المقيضة للهياكل، بل عرفوا أن إطالة العناصر شاقولياً بين البحور الحاملة، يتداعى إلى إضمحلال تلك العزوم، وتصاعد نموذجه في عنصر (الميل) أو البرج المقرنص في قبر زمردة بمقبرة الكرخ أو قبر الصوفي عمر السهرودي في الرصافة إمام الدر في تكريت أو في الكفل ببابل أو الحسن البصري بالبصرة.
ريادات مصدرها التفكير والتدبير
ترجعنا البحوث في سياق الريادات الى الحضارات القبل تاريخية من قبيل (جرمو وحسونة وسامراء وخلف وعبيد) ثم تاريخية مدونة من سومرية وأكدية وبابلية وآشورية ثم آرامية ثم توجها الإسلام الحضاري، رغم تخللها لحقب إحتلال أجنبي، سرعان ما ذاب في جنباتها، ومنها إحتلالات قادمة من إيران كالكيشية والعيلامية أو أبعد سلوقيه مقدونية. وقد حدث أن تبع لدول سياسية كما (الأخمينية والفرثية والساسانية) الفارسية.وكل تلك الحقب لم تترك أثرا صريحاً فيما أنتجته لاحقا في فنون وعمائر الإسلام، فهاهو الإحتلال الأمريكي منذ عقدين، ولم نجد أن العراقيين قد تكلموا الأمريكية أو بنوا مثل عمارات مانهاتن بنيويورك .ومن الجدير بالرصد بأن الثابت المعماري بين كل الحضارات العراقية قد أسترسل في المكان وعبر الأزمنة دون قطيعة بينها، فالعبيدية أورثت لسومر، وسومر لأكد وأكد لبابل وآشور وهؤلاء لأرام،وكلها صبت ببودقة الإسلام،حتى أن المعاين لسامراء يجدها صنو لبابل، حتى لو بنيت بعدها بثلاثة آلاف عام.
و نذكر في السياق البحثي، عناد المستشرق الفرنسي اليهودي (جوزيف هاليفي 1827 – 1917م) الذي تبحر في حضارات مصر واليمن ،و كافح ثلاثين عاما ضد فكرة وجود حضارة سومرية أصلاً ، كي لا تدحض أحجية (سهل شنعار) التوراتية. بيد أن الأمر لم يستمر كثيراً، حيث أثبتت الحفريات حتى عشرينات القرن العشرين بأن الحضارة والعمارة العراقية هي الأقدم قاطبة، وأن (شنعار)أو (سهل القمر) هي سومر ،وهي ليست بابل الأولى المموهة بل قاعدة لكل ما تلاها من حضارات.لذا لاتستغربوا أن وجدتم أحدهم يدحض وجود سومر فأعلموا أنه يردد ما قاله هاليفي ومن معه من اليهود، الذين يبدوا أن وجود سومر يقوض كل ما مرروه وسرقوه من أساطير ومفاهيم.وحسبنا أن علم الحفريات الذي لايتعدى الثلاثة قرون ،و لدينا في العراق منذ 1840، وأقرن بفك رموز الكتابة العراقية منذ 1857،وقد تسنى له أن يقلب المجن ويكشف المستور ويغير سياقات التأريخ ومسلماته التي كان (العهد القديم) أو (الإسرائيليات) موئلها ومصدرها الوحيد، بل عاد وبالاً على من أوجده في الغرب.
لقد أدعى الغربيون بأن الحضارة المصرية أقدم من العراقية على خلفية غزل مبطن في كون مصر “متوسطية” الموقع وسطوتها على اليونان التي تشبثوا بمرجعيتها ، رغم وهنه. حيث أثبتت الفحوص بأن تأسيس الأسرة الملكية الأولى في مصر حدث حوالي عام 2400 ق.م، وهو ما يؤرخ لقرب نهاية دول سومر عام 2006 ق.م، وأن المقابر المكتشفة في أور والتي تعود الى نفس الحقبة تمثل خاتمة دور يقدره المؤرخون ببداية الطوفان ويمتد ألف مائتي عام قبل ذلك العهد.وأكدت الحفريات أن مدينة (كيش) الواقعة شمال بابل، يرجع تأريخ ما اكتشف بها من معابد وقصور الى حوالي 3100 ق.م.بل أن طبقات (تل الصوان) في سامراء تكشف تراتب الحضارات قبل وبعد سومر.
تعود المستوطنات السابقة للتاريخ شمال العراق الى حوالي ثلاثة آلاف عام قبل سومر وفي وسطه وجنوبه بأكثر من ألف عام قبل ذلك أي حوالي 4500 ق .م وأمتدت حتى نشوء المدن حوالي 3600 ق. م ثم إختراع الكتابة بحدود 3200 ق.م،وأطلق على الحقبة السابقة لسومر “العبيدية” نسبة الى بلدة العبيد الواقعة على بعد 8,5 كم من اور (الناصرية)، و التي نقبت فيها بعثة إنكليزية في أواخر العشرينات من القرن العشرين . وتكمن خاصيتها أنها وحدت لاول مرة شمال و جنوب العراق بثقافة مشتركة، ضمت سكان المنطقة، وتمددت نحو الخليج العربي . وهنا تم العثور على منابع الكثير من المنجز السومري. فالمسكن “العبيدي” كان يبنى من القصب المطلي بلياسة الطين ، وقد وجدت في (العقير) بيوت طينية مبنية من الطوب (اللبن المربع) وأحتوت أبواب من الخشب او القصب، وكانت السطوح منبسطة. وكان يوجد في كل بيت ما بين أربع وست حجرات مخططة مسبقا، و إحدى الغرف يكون مطبخ و موقد طيني .وأعطت حفريات قرية “اريدو” (أبي شهرين) أعوام 1946-1949م ،نتائج هامة لكونها واحدة من اقدم مدن العراق القديم. بل أن مدينة (أريدو) في السماوة وجدت تحتها طبقات عدة لقرى عبيديه، بما يؤكد أن الظاهرة (المدينية) التي أقرنت بما دعي (توكيل أنانا) ،جاء بشكل عضوي ومن حاجة، حينما تعدى عدد سكان الموقع 50 الف نسمه، بحسب ما ذكره (لويس ممفورد) في كتابه (المدينة)، وهي طفرة طورت وكرست أربع، الدين والقوانين، والسلطة والكتابة.وفي ذلك شجون للسرد.
وبالمقارنة مع إيران التي نضجت معمارياً وحضارياً بعد العراق بليس أقل من الفين وخمسمائة عام ، حيث نجد أن أقدم مدينة أنشأت في الهضبة الإيرانية هي أقباتان الواقعة على تخوم همدان الحالية(336كلم جنوب طهران)،وتاريخها يعود الى حوالي 800 ق.م ويصنفها مؤرخ عمارة إيران الأمريكي(أرثر بوب 1881-1969) بأنها الأولى التي استعملت مبادئ تخطيطية عمرانية ومعمارية(). اما أقدم زقورة في إيران،فأنها تقع في الأحواز، التي تشكل جزء لايتجزا من السهل والوطن والثقافة العراقية، وأنشأها الملك العيلامي (جوكا زنبيل Choga Zanbil) وأكتملت في عهد الملك (أونتاش Untash)،وهي تقع قرب سوسه أو الشوش وتعود للعام 1250 ق.م. بينما أقدم زقورة في العراق باقية في أور السومرية المخصصة لعبادة الآلة (سين) أي القمر ،تعود الى العام 3100 ق.م. لهذا فأن ثمة الفيتين بين نشوء البنيان بين شقي الثقافتين.
و لا ترقى أقدم الفنون الفارسية الى أبعد من عهد قورش (Cyrus) ( 549 – 529 ق.م)، وكانت مدينة (برسيبوليس) أو “فارثيا” تعج بالمعماريين والفنانين العراقيين خلال الحقبة الأخمينية ممن جسدوا ميراث الدهور العراقية هناك . فجاءت أثار المدينة الدارسة صنو لمدن وفنون الآشوريين. ولدينا مثال نحت الآلهة أهورا(أثورا) أو الثور المجنح في ثنايا قصور مدينة (برسيبوليس) تقليداً لثور نينوى ،بالرغم من أن الثور لم يكن مقدساً لديهم كما كان الحال لدى الآثوريين، والذي نجد أنصابه في مداخل مدنهم وقصورهم في نينوى وخرسباد وكالح وآشور، بينما كان الفرس يعبدون آلهة أخرى مختلفة،وعمت الزرادشتية حوالي 800 ق.م، وهي ديانة لاتحتاج الى معابد،بل أن الداعية زرادشت نفسه القادم من قزوين عاش في بابل سنين طويلة، وأقتبس الكثير منها وأقحمها في فلسفته. ومن الطريف أن دينه الذي ظهر شمال إيران كان يوصف جهنم بالثلج والبرد بما يحاكي بيئتها، على النقيض من جهنم في المفهوم الإسلامي التي توصف بالنار كونها وردت من مناطق حارة.
لذا لم تكن المدن التي يحتلوها الفرس تحمل سمات القداسة ،ومنها إحراقهم مدينة بيت لحم بفلسطين عام 614م. ومن الجدير ذكره أن الأثاريون الفرنسيون وجدوا “مسلة قوانين حمورابي” البابلية ليس في بابل وإنما خلال تنقيبهم في مدينة (سوسه) أو (الشوش) الواقعة في الأحواز (Susian)، بعدما انتزعوها من مكانها في بابل إبان حالات المد والجزر الإحتلالي،ونرجح أنها غنمت إبان الدولة الفرثية (140 ق.م-226م) ، وكان سوسه عاصمتها الصيفية.
وقد سارت الحضارات الأكدية والكيشية ثم البابلية على نفس المنوال البنائي في استخدام الطين كخامة أساسية ،وتطورت خلال الحقب المتعاقبة و تصاعد أداء المنهج التخطيطي والكفاءة الإنشائية وتصاعدت في المقاصد الجمالية حتى وطأت حالة تنوع في المعالجات الفنية،ودقة وضبط في العناصر المعمارية. وقد استعمل الطوب (هو الطين المجفف تحت وهج الشمس) أو الآجر(الطابوق) المحروق بالآتون في الهياكل الإنشائية ، وغشي بالآجر المزجج الملون،ثم أكسيت الحيطان الداخلية بطبقة من ملاط الجص .أما من الناحية الوظيفية فقد اضطلعت المعابد بأهمية قصوى في الحياة الروحية والثقافية والاجتماعية العراقية.
وفي العمارة الآشورية التي بدأت سومرية لكنها سرعان ماتوائمت مع بيئة الجبال منذ العام 2400 ق.م ،وتداولت الحجر الكلسي والطيني وهي خامات بناء جيدة ووفيرة في جبال شمال العراق(أطورايا)، ووائمت العناصر الإنشائية مع الحجر، وأستحدثت عناصر معمارية وظيفية، ومنها مثلاً بناء (السقوف المزدوجة) أو بيوت (الكلة) أي الأبراج، المصمته في طوابقها الأرضية والتي توظف للعيش في طوابقها العليا،وقد انتشرت في أصقاع كثيرة ولاسيما في البيئات الجبلية كالقوقاس والبلقان والأناظول بل عسير في السعودية (تسمى القصور)، واليمن.و استعمل الحجر الكلسي في أسس البناء المعرض للرطوبة التي تلحق بالآجر النيئ(الطوب) ضرراً كبيراً، واستعانوا بالحجر لبناء أسوار الصروح الملكية. وجدير بالذكر أن العمارة الآشورية كانت دنيوية أكثر منها دينية و لم تقم صروح للروح كما في سومر واكد و بابل، وكرست الصرحية التي توحي سطوة واختيال الدولة، وهذا ما أقتبسه الرومان والفرس تباعا ثم وطأ بعض عمائر المسلمين، حينما تخلوا عن الزهد المحمدي.
وتعد الحقبة البابلية المتأخرة ذروة ما وصلته العمارة والفنون ، ونجد في بوابة عشتار ملامح من ذلك السمو. وعندما أحتل الأخمينيون القادمون من إيران، وسقطت بابل على يد قورش عام 539 ق.م ،حدث أن تقمص الغالب روح المغلوب الحضارية، حيث تجلى تأثير الحضارة العراقية في شتى وجوه الحياة الفارسية، حتى ان اللغة الآرامية أمست لسان الثقافة والإدارة الساسانية، وتقمص الفرس روح التدين العراقي ،وامست المانوية دين القوم الغالب ، وهذا ما أوحى للاعتقاد بأن الداعية ماني بن فاتك البابلي(213-277م) فارسي، بالرغم من كل ما يثبت انتمائه البابلي العراقي. وهنا نشير الى أن إقتران الفرس بالإسلام ثم التشيع ،نعده سياق متواتر ، سار على هدى الثابت التأريخي، فالتشيع أصله عراقي محض، وفصله فارسي.ومن المفروغ منه أن إيران كادت أن تكون عربية قبل خمسة أو ستة قرون، حينما كان أدبائها لايكتبون إلا بالعربية،ولايعرفون الفارسية إلا باللسان الشعبي، لذا فإن 70% من مفردات اللغة الفارسية اليوم هي عربية، وقد أتتهم من العراق دون ريب.
تعد الدولة الساسانية الأقرب تأريخيا كونها جاءت قبيل ورود الإسلام الذي تعمد مؤرخوه الى التعمية على ما سبقه كونه (جاهلي)،ولاسيما الأرث الآرامي المسيحي خلال إحدى عشر قرناً، مثلما حصل بين الرومان وطمسهم لليونان،ورفضهم تقليدهم.وأدغمت تلك المغالطات في صلب المنتج التدويني العربي الإسلامي، لذا ثمة جهل بحيثيات تلك الحقبة(539 ق.م-635م)،حتى أن أسم (نبطي) أدغم وتساوى مع (أعجمي) الذي أقترن بالفرس تباعاً، فأصبح العراقي مشمول بذلك السياق البعيد عن الواقع والوقائع، بل أن إنتماء (الموالي) وتهمة (الشعوبية) الملتبسة العنصرية، جمعت العراقي المعتد بإنتماءه للأرض، مع الفارسي الطارئ المحتل. وقد أسعفنا علم الحفريات بكشوف تدحض الكثير مما ورد في الرواية الإسلامية أو أعتمدها تزوير المستشرقين وترديد المستغربين، فأصبحنا أمام شهادة ثلاثية مسلم بها. لذا اقتطعت حلقة مهمة من حلقات التاريخ الحضاري العراقي ، بما فتح شهية الغربيين في نسب كل ماهو إسلامي في العراق الى ساسان وفي الشام الى بيزنطة،كونهم (آريين)!، بحسب تصانيف الأقوام الساذج،والذي ساد ردحاً ثم باد بعد نفق النازية. وهي النظرية التي أطلقها اليهودي الهنغاري (شلوتزر) عام 1781، بتقسيم الشعوب إلى سامية وحامية ويافثيه، بحسب أسماء أولاد النبي نوح بعد الطوفان، ومازالف الفرس وبعض من العراقيين بصنفون أنفسهم (آريين) رغم سذاجة الفكرة ونأيها عن أي دليل لساني أو أجناسي، وفي ذلك سياق كتبته في (الألسنة العراقية).
روج الفكر القومي الغربي بأن “الساميون والحاميون” مستهلكي حضارة ، والآريون منتجين لها. وبرغم عدم إيماننا بذلك التلفيق ، فأن علم الحفريات دحضها وقلب المجن عليها ،وأثبت وبدليل التقادم الزمني الدامغ بأن العراق “السامي”، مكث مهد ومنتج للسمات الحضارية، بل وأن فارس” الآرية” مستهلكة ومقتبسة لها. ومن الطريف أن الفرقة الحفرية الألمانية التي نقبت في بابل وسرقت كنوزها ولاسيما بوابة عشتار عام 1897 بقيادة المعمار (روبرت كولدوي Robert Johann Koldewey )(1855-1925) ادعى في حينها وبسبب سطوة النظرية العرقية تلك، بأنهم جاءوا يبحثون عن الاقتباسات العراقية من عمارة برسيبوليس (الآرية) في إيران.لكن تبين لاحقا، أن كل عمارة وفنون (برسيبوليس)، ليس إلا إستنساخ من العمائر والفنون العراقية التي سبقتها بألفي عام على الأقل.
نلفت النظر إلى أن الساسانيين لم يكن لهم صلة بفارس البته فلغة دواوينهم كانت النبطية العراقية وعاصمتهم طيسفون أو المدائن الواقعة على تخوم بغداد(سلمان باك) وهي سلوقيا أو مدينة بابلية قديمة، ولايعرف حتى اليوم عن لغة الساسانيين الأصلية، وقد راق لبعض (القوميين) من الفئات العراقية أن ينسبوها لهم دون دليل. أما عمارتهم فهي محض سياقات للعمارة الرسوبية العراقية وأن أبعد أثر لهم لايتعدى أميال عن الحدود السياسية الحالية ،وأن مكوثهم في التاريخ لم يتعدى الأربعة قرون وهو غير ذي شأن أمام أربعون قرناً سابقة من المنتج الحضاري المحلي.
رصد الباحث المصري الدكتور فريد الشافعي ، بأن آثار منطقة بايكولي (Paikuli) التي فيها اثر للملك نارسي (Narse) وتؤرخ لسنة 294م أو أبعد من ذلك في قصر شيرين وكذلك (سرفستان) و(فيروز أباد) او (سوس)() في (الأحواز) وكذلك في (دستجرد) ، بأن كل هذه المدائن متاخمة للحدود العراقية الحالية ولم يأتي ذلك إعتباطاً، إذا علمنا انها تبعت للفر والكر خلال القرون الأخيرة في صراعهم مع العثمانيين.وحدث أن أهدى الإنكليز عام 1926 الأحواز إلى إيران، بعد خداعهم الشيخ خزعل الكعبي.
وبين الدكتور الشافعي بأن الآثار (الإيرانية) واقعة داخل العراق في منطقة (الأحيمر) او (كيش) او جنوب المدائن (طيسفون) عاصمتهم ،وكذلك آثار الحضر و أشور و الحيرة، ويؤكد أن : (لم تمكث فارس في مكان القيادة إلا أكثر قليلا من قرنين في العصر الأخميني (539-331 ق.م) ،ثم عادت بلاد العراق بعد تلك الفترة الى مكانتها القيادية السابقة” على الأقل حضاريا”، وذلك منذ بداية العصر السلوقي) ويستخلص الدكتور الشافعي ثلاث إستنتاجات جوهرية في فهم إشكالية التداخل بين الأرث الفارسي والعراقي وهي:
- أن العمارة الأخمينية التي سبقت العهد الفارثي والتي وجدت أثارها في فارس هي مشتقة من التقاليد والأساليب الآشورية القديمة التي موطنها العراق.
- إن العمارة الفرثية التي لم يعثر على أمثلة منها خارج أراضي العراق إلا ما ندر، متناثرا في الأجزاء الغربية من بلاد إيران المتاخمة للعراق.
- إن الآثار الباقية من العمارة الساسانية تتركز بصفة خاصة في منطقة العراق ،بينما يوجد القليل منها في فارس بل معظم هذا القليل يقع متاخم للحدود العراقية() .
أن القصور الفارسية التي أرساها ملوك أعجبوا بالروائع التي شاهدوها في العراق كانت محققة لهوى الملوك وليس لها أصول معمارية في بلادهم بما تفرضها طبيعة أرضها، أو متطلبات العيش على هضبة فارس الجبلية.
لذا فقد اندثرت عمارتها مع الاخمينيين. بينما مكث الأمر ثابتا في بيئته منذ ما قبل سومر ، حيث مكثت المساكن المعقودة بالقبوات والقبات الصالحة لوقايتهم من فرط حرارة الشمس، وشيدوا ولا سيما في بيئة الأحواز منازل بحيطان حاملة ذات سقوف تحملها عوارض من جذوع النخيل ، وطبقات من حصر سعف النخيل أو الصفصاف،ولحمايتها تليس بطبقة من المدر ، وهذه من السنن البنائية العراقية حتى اليوم، بل وفي الجزيرة العربية كذلك.
يذكر المؤرخ اليوناني (أسطرابون 61ق.م-15 م) في سياق وصفه للأحواز: (لحماية المساكن من وهج القيظ، كانت السقوف تغطى بذراع (50 سم) من التراب. وكان ثقل هذا التراب يفرض بناء جميع المنازل ضيقة مفرطة في الطول، ولو كانت الغرف متسعة لاختنق ساكنوها ).ويذكر عالم الآثار الفرنسي (أرنست بابلون): (ولما كانت شروط البلاد المناخية، اليوم كما كانت عليه في الماضي ، فطريقة البناء الحالية هي الطريقة عينها، التي استعملها سكان إيران الأقدمون. ويصادف المسافر منازل تختلف باختلاف ثروة أصحابها، وقد علتها قباب وعقود وسطوح وفق المتطلبات المحلية. وأكيد أن الإيرانيين الذين عاصروا الأخمينين عرفوا، العقد والقبة من جيرانهم على ضفاف دجلة). وهو ما ذهب إليه المستشرق الفرنسي (ديولافوا) الذي قال(نصادف اليوم عقودا معرشة، وعقودا مثلثة، في عقود كنائسنا القوطية في القرن الثالث عشر، وهي سيان مع عناصر الهندسة الاهوازية) علما أن الطراز القوطي أستنسخ من العمارة الإسلامية في الأندلس، التي أستعارت الكثير من الطرز العراقية، أقلها إستعمال الآجر(الطابوق) والخزف (الزليج) ونقش الجص الذي تحول من سامراء إلى فاس ثم قرطبه وغرناطه.
وهكذا لم يكن للفرس أي حضارة ذو قيمة قبل القرن السادس قبل الميلاد باعتراف الجميع وهو موعد متأخر مع التاريخ. حيث يذهب الكونت (دي جوبينو ) معلقا على المنتج المعماري الإيراني: (إن الإيرانيين لم يبتكروا شيئاً جديداً في الفنون ،سواء أكان في عصر الأخمينيين أم عصر الإشكانيين أم بعد ذلك إبان عصر الساسانيين وحتى في العهد الإسلامي لم يكن للفرس طراز أو فن خاص بهم , بل إنهم اقتبسوا من غيرهم من الأمم ، وأمكنهم في النهاية أن يخرجوا من هذه الأذواق فنًّا نطلق عليه الفن الفارسي).
ثمة حقيقة أن كثير من الحضارات أتسمت بالصبغة العسكرية أو السياسية والتجارية أكثر من إنتاجها للفكر ،ومن الإستثناءات كانت اليونانية مثلا التي حاكت الإسلامية كونهما حضارتين تدوينيتين. وهذه المقارنة تنطبق على الدول الإيرانية التي ظهرت كقوى عسكرية تتطلع للانقضاض على العراق دائما، بسبب خصبة أو إمتلاكه محطات خطوط القوافل التاريخية.و كانت دول إيران سياسية وتجارية أكثر من كونها مثقفة تعتني بالتدوين وعمران المدن وترتقي بالعمارة والفنون. ويعلق على ذلك الباحث المصري الدكتور نجيب ميخائيل إبراهيم: (تفوق الفرس في ميدان الحروب ولكن أعوزتهم الثقافة والحضارة التي كانت للشعوب التي غلبت على أمرها) ويقول في موضع أخر: (لقد دك الفرس أركان الحضارات في الشرق،و امتدت حروبهم من حدود الهند حتى البحر المتوسط، فزعزعوا من أسس الحياة الثقافية في البلاد التي حكموها،وقطعوا خيوط الحضارات الأصلية ومزقوها شر ممزق وقضوا على التطور الفني في كل مكان).
ولا بد أن نشير الى أن إيران كانت توائم العناصر الفنية القادمة من حضارات أقدم، حيث أن وفرة خامة الخشب الغابي في البيئات الشمالية من فارس، جعلها تستغله في تجسيد عناصر كانت أساسها من الآجر(الطابوق) كما الأعمدة في أصفهان وتبريز أو القباب في قزوين ونيسابور. مع إقرارنا أن الجنوب الإيراني مكث أميناً على العناصر الأولى مثل العراق، بسبب شحة الغابات، وتجسد في مدائن همدان وشيراز وأزد وعبادان.
وبسبب وسع رقعة إيران الجغرافية. فشتان بين عمارة شماله البارد وجنوبه الشبه صحراوي القاحل والحار. ونلتقي المساقط المتضامة وشيوع خامة الخشب في الشمال تقابلها مساقط منفتحة ومهواة وشيوع لخامة المدر ومنتجها وعناصرها لدى عمائر أهل الجنوب،تماما كما هو الفرق بين العمارة الآشورية والبابلية، أو عمارة الموصل و جبال العراق، عن بغداد والبصرة.
وعادة ما تستثمر فارس فترات الإرتقاء الحضاري للعراق كما حدث إبان بابل الأولى ثم آشور وبابل الثانية، ثم الحقبة العباسية في الإسلام، لتكتسب الكثير،وتختزنه لنفسها،حيث نجد مثلا أن مادعي العمارة الصفوية وتجسدت في العتبات العراقية، فإنها صورة منمقة من طراز العمارة العباسية في بغداد وسامراء، وأن نقش الجص في (نايين) هو نفسه الوارد على حيطان سامراء، بل أن مادعي العمارة التيمورية التي عمت في آسيا الوسطى هي أس ذلك الطراز العراقي، حينما أخذ تيمورلنك حوالي 1406 البنائين العراقيين ليقيموا صروح سمرقند وبخارى.
لقد عم الطراز الصفوي في القرنين السادس والسابع عشر، وأتسم بخصوصية، وأنتج أوابد ومعالم ،ولاسيما في عاصمتهم أصفهان. ومن الملفت والمؤكد للإقتباس من الطرز العراقية أن أصفهان تقع في شعاب الجبال، ولديها غابات وحجر يمكن أن يشكل خامة نموذجية للبناء، لكنهم أقتفوا العناصر الطينية وبنوا بالآجر (الطابوق) وغطوا مبانيهم بالخزف الكربلائي رغم وجود الرخام. واستمر الحال في العمارة الإسلامية ولاسيما في العهود السامانية والغزنوية والبويهية ثم الإيلخانية والتيمورية ،ثم الصفوية، بل وأنتقلت للهند المغولية. ونقف هنا على حقيقة أن أصل العناصر بمجملها كان عراقيا والاستعارة إيرانية بالتقادم الزمني. وقد تسنى لفارس أن تنشرها في أصقاع أبعد، فوصلت عمارة العراق إلى أسيا الوسطى والصين والتبت و بلاد الأفغان و الهند المغولية وتوجت في معلم (تاج محل) بأكرا الهندية، بل والبلقان وروسيا شرقا ومصر وشمال أفريقيا والأندلس وصقلية غربا. وأمتد التأثير العراقي من خلال خامة الطابوق إلى عمائر كل الشعوب تقريبا، وطغى طابعها حتى على من بنى بالحجر والخشب، ولاسيما في أوربا كما في بريطانيا والمانيا وأسكندنافيا والبلقان ،ناهيك عن حضوته في مدارس البحر المتوسط.
ونجد أن السلاجقة خلال تقدمهم من آسيا البعيدة إلى إيران، ثم توسعوا نحو الغرب وعبروا آسيا الصغرى (تركيا) إلى البلقان، فأنهم حملوا معهم الأرث العراقي المتواجد في عاصمتهم الأولى (تبريز)، وحدث أن تلاقحت مع الطرز الفاطمية والمملوكية المصرية والبيزنطية المحلية في أسطنبول فأنتجت مادعي العمارة العثمانية.
وفي تحليلنا لضريح الإمام موسى الكاظم بن جعفر الصادق (ع) في بغداد، والذي يعود تأريخه المتأخر الى العمارة الصفوية، ابتداءا من مساهمة إسماعيل الصفوي عام 914 هـ\ 1508م حتى وبعد وفاته على يد طهماسب بعد العام 935 هـ\ 1528م. حيث نجد أن مسقط البناء المربع الشكل، هو ما يجمع كل العتبات العراقية. وما السياج الخارجي أو الإيوانات المتكررة إلا عناصر موروثة نجدها في المدارس والخانات .وحين نفككها نجد أن المربع المقدس المحاط بالصحن المربع هي سنة بنائية أتبعها العراقيون منذ سومر عند بناء معابدهم(دعوها نيندا) لما لها من إيحاءات رمزية بالقسطاس والإستقرار، ومكثت حتى في الكعبة المشرفة.
أما ” المسقط المتناظر” في هيئة الضريح فقد ورد من أعراف محلية تطورت من بابل وسمت إبان الحقبة الساسانية ،وفحواه الإنشائي مربعين أو ثلاث من صفوف الأكتاف والحيطان ، لتحمل دفع العزوم الوارد من القبتين الخارجية والداخلية ، التي صنعت الشكل البصلي للقبة، ليس بسبب شكلها المحبب، بل من مبررات إنشائية ، فحواها إنحدار العزوم وتعادلها في الدفع للخارج بين تلك القبتين . أما من الناحية البصرية فأن الخارجية وجدت لأسباب مدينية أما الداخلية فتناسبت مع المقياس البشري، وهو ما أقتفته وقلدته إيران بالتمام والكمال حتى اليوم. ولايفوت المبصر أن ذلك الحل المعماري يضفي على المنشأ هيبة وجمال ورشاقة (سلويت)، بل ومحاكاة للمخلوقات وما يضفيه من إيحاءات روحانية.
وعنصر القبوات أو الإيوانات الذي أريد له أن يكون فارسي أو بيزنطي أو روماني، لكننا نجد أن أقدمه في العالم وجد في موقع تبة كورا شمال العراق ويعود إلى حوالي 5000 ق.م ، وهو نفسه الذي تجسد في إيوان (المدائن). وكثير من الجاهلين الذين ألصقوا به تسمية (إيوان كسرى) وهو محض مغالطة، حيث أن البناء وجد على أرض عراقية وأقتفى طرز عراقية وبنى بخامات الطين العراقي وبناه معماريون عراقيون دون ريب، لكنه بني في زمن الإحتلال الساساني، فهذا لايعني أنه أتى من إيران ، بل العكس هو الصحيح، ونجده قد طبق حتى في خان (الأرورتما) المغطى أو مانسميه (خان مرجان).وهنا نلفت النظر إلى أن مرجان(أسمه مورػان ويعني صباح)،وهو المملوك الصقلبي الذي أتي سبي من إيطاليا،لم يبني الخان ولايمكن أن ننسبه له أو لإيطاليا، كما بالتمام ما حدث مع (أيوان كسرى)، الذي نسب لفارس!.
و الرواق الخارجي المطوق في مجمع ضريح الإمام موسى بن جعفر (ع)، فهو استرسال من أعراق بنائية عراقية قديمة ،حيث وجد في أقدم نماذجها في معابد عصر العبيد وظلت ملازمة لعناصر البناء في المعابد في مختلف الأدوار اللاحقة ، وقد طبق هنا مبدأ الطلعات والدخلات (Recesses & Buttresses)() ، الذي نعده ضروريا كحل إنشائي يجعل من الحائط الخارجي الصفيق مقاوما لظاهرة الإنبعاج التي تعاني منها حيطان الآجر السامقة.ونجده قد خطط له ونقش في حجر تمثال الملك المعمار الأكدي (كوديا Goudea) (حوالي 2150 ق.م)، وتجسد بمخطط لمعبد سومري. وقد أسترسل هذا الحل تباعا حتى نجده قد وطأ العمارة الإسلامية ووجد في قصر الاخيضر أو في مسجد سامراء على شكل هيئات إنشائية نصف أسطوانية الغاية منها إسناد السياج الخارجي إنشائياً،وهي في حقيقتها إسترسال وتطور من نفس المبدأ البنائي الموروث.
ونجد أن تلك الهيئات الساندة للحائط الخارجي قد أخذت شكلاً مستطيلاً منتظماً عمودياً على السياج ،و حول موضعه من خارج البناء إلى داخله، لتضفي حل معماري وظيفي، اقتضى تغطية ما بين الحائطين بسقف مقبى أو إيوان بما أنتج حجرات تمتد على طابق أو طابقين للزيادة في الصرحية أو حاجة وظيفية تستخدم في شتى الأغراض. وفي حالة المشهد الكاظمي اكتفى المعمار بطابق أرضي من الحجرات يسبقها رواق(طرمه) مغطى بنفس الإيوان . وترك السطح سامق لأغراض بصرية ،و يمكن أن يكون مردود ذلك السياج ما يفيد في العزل الصوتي بين هرج ومرج السوق والميدان الخارجي وبين الصحن الداخلي ،الذي يؤمه العامة للاسترخاء والعبادة. وتخترق الإيوانات السامقة مداخل (دروازه)،بما يخدم الجانب الإنشائي والوظيفي والبصري،من خلال فرز وصرحية شكلية مقصودة،كي تعلن عنها وتنبرها، ولاسيما أن مواقعها تكون عادة عند نهايات الطرق المنطلقة من محيط المعلم نحو الأرباض.
وقد انتقلت تلك الحلول الهيكلية من هيئتها الوظيفية إلى الجمالية ،وجسدتها عمليات التغشية للسطوح بالخزف الكربلائي الملون ،وهو من ثوابت المعالجات الفنية في العمارة العراقية ويمتد شوطه منذ المعبد الأبيض مرورا ببوابة عشتار. وقد أضيفت للإيوانات حطات من المقرنصات “المعلقة” في جنباتها ،بنوعيه المعرق والمتدلي الذي ميز عمارة الحقبة الصفوية في إيران والعراق ،وهو في حقيقته فذلكة وردت من ثوابت العمارة العراقية، جوهرها تطويع إنشائي ثم جمالي لخامة الآجر، علما أن أول ظهور للمقرنص كان في نهايات القرن التاسع الميلادي في بغداد وسامراء. ونرصد هنا أن تلك المقرنصات قد بنيت في العمارة “الصفوية” بهيئة “معلقة” أي أنها لم تكن معبرة عن حلول إنشائية ،وهذه في حقيقتها إحدى نقاط ضعف الطراز الذي تحول من المضمون للشكل. ونجدها عندهم قد أتخذ شكلا حائرا بين الزخرفة والإنشاء ،التي فقد بها ميزاته الأصلية.
وفي الجانب الفني فأن الخزف المزجج الكربلائي هو من أساسيات المعالجات الفنية .ويحبب البعض تداول مفردة قاشاني(كاشي)،وهو واردة من أسم مدينة كاشان .وهذه الخامة من النتاج العراقي السومري ثم البابلي لذا نفضل تداول مصطلح (كربلائي) كونه الأقرب للحقيقة والريادة.علما أن أسم كربلاء واردة من الأصل البابلي(كورو-بابل) أي قرى وريف بابل. وهو مايسمى في المغرب الإسلامي وإسبانيا الزليج، حتى أن الخزف ذو البريق المعدني يعود للحقبة العباسية وأصله من سامراء وبغداد.
أما التكسية بالذهب فقد جاءت من العمارة الإيرانية ،وقد أقتبسوها من التقاليد الآسيوية ولاسيما من البوذية والهندوسية، بالرغم من أن عرف تغشية القباب بالمعدن تقليد عراقي قديم، لكن إستعمال المعدن النفيس لم يرد سابقاً. ويبدوا الأمر لغير المختصين ثراء،بينما الحقيقته تشير إلى أن ثمة غضاضة أضطرت المعمار الإيراني أن يعوض الشكل ببهرج اللون والمعدن النفيس.ويفسر علم الجمال ذلك بأن المضمون يخلق الشكل وأن أي نقص فيه يدفع الشكل الى تعويضه ببهرج الحلول وإزدحام وتراكم العناصر وتداول نفيس الخامات!.
نقر بأن الطراز حينما يتقادم عليه الزمن ويفقد عضويته التطورية ويقلده البناءون برتابه وتكرار(monotonous)، فأنه يطأ يوما حالة من السؤم من جراء النأي عن الصدق والصراحة والمباشرة، بعد أن تطورت الوسائل البنائية حوله،بما يدفعه للبحث عن الجديد الأصدق في جدلية إنتقال الطرز. وهكذا تتولد النهضات من صلب المتناقضات والوهن،ومقصدها وغايتها أخلاقية محضة.وعادة ما تتجدد العمارة من الإطناب بالتكرار ،بعد أن يأسن الطرز ويمكث دون حراك ويصبح عالة على ذاته ومتخلف في الزمن المعماري. ودليلنا في تبدل الطرز الغربية من كلاسيكي ثم بيزنطي ورومانسكي(شبيه بالروماني) الى قوطي ثم باروك ثم قوطي جديد وكلاسيكي جديد وكولونيالي، حتى جعل للحداثة مبرر وجدوى في الظهور ، حينما سعت إلى المضمون “الأخلاقي” في الوظيفة والجدوى والإقتصاد، على حساب الزخرف والحشو والتكرار الممل. بل وأن (مابعد الحداثة) جاءت لتلافي السؤوم والملل الذي أصاب حالة الإختزال في الحداثة.
ثمة خطاب متشنج للمركزية الإيرانية التي تروم أن تنسب الأمور لنفسها كما فعلت المركزية الغربية ،رغم أن أحجية “الآرايين” عفى عليها الزمن وأمست أسطورة لاسند علمي يبرهنها، وهي اليوم مدعاة تفكه من طرف الغربيين أنفسهم،ولم تعد اللّغة سندها بعدما توسعت المدارك وتيقن الجميع من تداخل كل اللغات لأصل مشترك وكأنه أنبثق فعلا من برج بابل. أما تكريسها اليوم فنعزية لمسوغ سياسي يتماشى مع ثمالة الوعي والأمية الثقافية المستشرية والخطاب الديني الملتوي. لقد تبنت تلك الدعاوى أن العراق محض تركيبة مصطنعة أوجدها الإنكليز ومنتج لـ(سايكس بيكو). وبحسب ذلك أسقط النتاج الدهري العراقي على “أقواميات” خيالية. وقد انطلى الأمر ردحا على غير المطلعين ،وشاع على ألسنة المتربصين التابعين.
نقر بالنتيجة أن الشعوب تقتبس من بعضها،وأن الأفكار تسيل وتتهاجن وتنتقل بل تكون مثل مداميك الحجر تبنى فوق بعضها ولا يوجد من تنزل عليه الحضارة على عين غرة، ولا أحتكار لعرق في الحضارة دون غيره، والإنسان نتاج ظروفه ومحصلة بناءه ،وأن أي إنسان يمكنه بناء حضارة لو توفرت له شروطها. ونقر بأن أي محتل لايمكن أن يستسيغ إرتقاء البلد الذي يهيمن عليه، وهذا مايحدث في العراق اليوم.