شيخ الإسلام البلقينى وصلاة الجمعة في زمن الطاعون

سيد خاطر | باحث في التاريخ وكاتب مصري

كمسلمين بكل أطيافنا  نعتز بديننا لا نترك فرصة إلا ونؤكد على أن هذا الدين الذي نشرف بالانتماء إليه هو دين صالح لكل زمان ومكان، وأن الفقه الإسلامي فقه مرن متطور يتماشى مع كل ما يطرأ على الحياة من تطور وما يستجد من منجزات بشرية.

لكن واقع المسلمين في أحيان كثيرة يتعارض مع ما يرددونه من تنظيرات  فالفقه الإسلامى الذى يتفق الجميع على مرونته عندما يقف أمام مسألة مُستحدثة فيخرج منها بحكم فقهى يتماشى مع العصر تجد أول من يعارضه هم من يتشدقون دوماً بمرونته وصلاحيته.

وإذا ذهبنا نضرب الأمثلة فالأمثلة لا حصر لها، لكننا سنكتفى بمثال نحياه الآن، ففى ظل ما نمر به من تفشى وباء كورونا الذى منع العالم من ممارسة طقوسه اليومية المعتادة  صدرت فتوى شرعية في كثير من بلادنا الإسلامية بمنع إقامة الجُمَع حفاظا على النفس البشرية والحفاظ على النفس أحدى الكليات الخمسة التى جاءت الشريعة للحفاظ عليها وهى فتوى لها سندها ومعها أدلتها وتدل وتؤكد على مرونة الفقه الاسلامي وصلاحيته بالفعل لكن الغريب في الأمر أن بعض من يدعون عظمة الفقه الإسلامي عارضوا تلك الفتوى بل أفتى بعضهم بأن على كل مسلم أن يقيم الجمعة حتى لو في بيته بزوجه وأولاده مستشهداً بأننا على مر عصورنا لم تغب عنا فيه صلاة الجمعة وراح ينعى على المفرطين ممن تساهلوا في إلغاء الجمع وينعتهم بمالا يليق و الأمر فى قناعتى هوى وانحياز ومكايدة .

وكعادتى دوماً ألجأ إلى التاريخ فهو المنهل للعبرة والعظة وهو أداة التطور لمن أراد واستعد.

ففى الطاعون الأسود الذى ضرب العالم قديما عام 749هـ 1314م والذي كان سببا في موت الملايين شرقاً وغرباً حتى أن القاهرة العامرة كان يموت فيها فى اليوم الواحد ما بين العشرة آلاف نفس والعشرين على ما ذكر المقريزى في كتابه السلوك لمعرفة دول الملوك وقد صارت القاهرة بعد انحصار الطاعون مدينة أشباح وهى التى عرفت طوال تاريخها بكثرة سكانها وأنها  مدينة لا تنام، ومن أحداث ذلك الطاعون تلك الوقعة التى فيها بيت القصيد فيما نكتب والوقعة يرويها لنا محمد بن إياس الحنفى في كتابه (بدائع الزهور في وقائع الدهور) ففي أحداث تلك السنة (٧٤٩هـ) يروى ابن اياس فيقول:

ثم إن شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقينى خرج وهو يمشى على أقدامه من بيته الذى في حارة بهاء الدين، والناس حوله يذكرون، حتى آتى إلى الجامع الأزهر، وكان ذلك يوم الجمعة، فخطب بالناس خطبة بليغة، وأمرهم بالتوبة من ذنوبهم ، وابتهل الناس إلى الله بالدعاء، فلما رجعوا من الجامع، وأصبحوا تزايد أمر الطاعون وفشى فى القاهرة، حتى تجاوز الحد في ذلك.

انتهت رواية ابن إياس وهى واضحة الدلالة على أن اجتماع الناس فى الجمعة كان سببا فى تفشى الطاعون عن طريق انتقال العدوى، و قد يطعن البعض في شيخ الإسلام البلقينى ليحمله جريرة ما جرى ويتهمه بما لم يقصده ويسعى إليه وهنا يكون قد تجاوز وأخطأ فشيخ الإسلام البلقينى تعامل بمعطيات عصره ومنجزات زمنه ولو علم رحمه الله أن الطاعون ينتقل بهذا الاجتماع ما دعا إليه ولا سعى فيه لأنه علم من أعلام عصره علماً وفضلاً.

والآن نحن على المحك الحضارى فأما أن يكون تنظيرنا ونظرياتنا حقيقية في أن الفقه متطور وأن ديننا يصلح لكل زمان ومكان وإما سنكون مرمى لكل سهم يصيب ولا يخطىء.

فلا خلاف فى التنظير في أن الإسلام جاء لحفظ النفس البشرية ورعايتها بل توالت الآيات والأحاديث لتؤكد أن هدم أعظم الإماكن قداسة أهون عند الله من فقد روح.

وهنا تتجدد قضية التعامل مع التراث فالبعض يدعو إلى تنقيته باستخدام الحذف والقص والبعض يدافع عنه ولا يقبل  المساس أو الإقتراب منه ، وأنا بين بين ، فلستُ  مع من يدعو إلى الحذف والتبرء مما في تراثنا ولست مع من يقدس هذا التراث ولا يتملك شجاعة  انتقاده ، فتراثنا منتج بشرى يحوى ما قد نقبله أو نرفضه ولا قداسة إلا للنص الآلهى والأحاديث المتواترة وحتى تلك النصوص المقدسة قد يختلف في فهمها أهلها واختلافهم مقبول لا شىء فيه.

عظيم هو الدين الذى لا يتعارض فيه العقل والنقل.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى