الفنتازيا والغرائبية في مجموعة ” كتاب الحياة ” للقاص عبد الأمير المجر
قراءة هيثم محسن الجاسم
الخيال عند أرسطو يرتبط بالبنية التي تلبسه لتخرجه كإنتاج منظم خلق مادة سردية أو شعرية تصور واقعا آخر غير الواقع الحرفي لكنه يتوفر على شرط الإقناع المنطقي من حيث علاقته الدلالية
بعد اعلان عودتي لقراءة المنجز السردي العراقي , لا أقول صدمت بل فوجئت بنصوص كبيرة محليا وتستحق ان توصف بالعالمية ,نصوص لكتاب من جيل الثمانينات الذين اعتز بالانتماء لهم تستحق ان يقال عنها رصينة وراسخة ومحل فخروأحترام.
القاص عبد الامير المجر عاش وترعرع في الوسط الابداعي أسوة بكثير من الادباء, مارس الصحافة وبقي الادب حيا فيه لينجز العديد من الاعمال القصصية التي نشرت ابتداً من عام 1999 بصدور تهجدات الصحارى ..صرخة الوحيد, واخيرا وليس آخراً كتاب الحياة وقصص أخرى 2018 موضوع قراءتنا هذه . وتخلل تلك الرحلة الابداعية صدور مجموعة قصص ليلة العصفور الاخير 2001 ومجموعة قصص غيلان نشيد المشاحيف 2009 ومجموعة قصص مالا يتبقى للنسيان 2015 .
المجموعة القصصية “كتاب الحياة” ضمت سبع قصص قصيرة وواحدة طويلة بعنوان عودة الانسان, لا ادعي اني مختص بالكتابة عن السرود بل قارئ جيد واستطيع أن أحفر في النصوص لأكشف المضمر فيها .
وجاء اختياري لهذه المجموعة لان القاص كان إضماريا بامتياز بأسلوبه الغرائبي والفنتازي والرمزي الساخر لإيصال فلسفته وافكاره واحتجاجه الذي وصل لدرجة ان تعود الارض لطبيعتها الاولى ويعود ادم وحواء من جديد لممارسة لعبة الحياة من جديد .
ولأني امارس العمل الصحفي اكتشفت تأثير الصحافة على مخيلة القاص اثناء سرده لأحداث نصوصه واستثمار ذلك بأسلوبه الخاص والمتميز بكتابة القصة ونضجه . فعندما نقرا في نص مثل “العراة ” نرى السخرية من واقع مزري يبتذل الانسان ويحط من قدره وحقه بالحياة الكريمة (كان الغريب فعلا ,ان كل من ينزع مايراها ملابسه ويرتديها يعقبه اخرينتزع ملابس اخرى تظهر تحتها ….حتى ارتدى الجميع ملابسهم ليبقى الرجل عاريا فوق المنصة)ص13 .
(لم يمض وقت طويل حتى كان الرئيس يتقدم مجموعة عراة يسيرون كالقطيع في شوارع المدينة وخلفهم الجموع الغاضبة ) ص14 .
وتستمر السخرية والاحتجاج لدى القاص في قصة “دعوة لحفل المجانين “من السياسيين وازلامهم من الصحفيين والفنانين المتسلقين الذين يقتاتون على فضلات موائدهم, المطبلون اعلاميا للفاسدين بتزويق اعمالهم الفاسدة بتضليل الجمهور .
(الحفل انتهى اكثر من ساعة يا أستاذ …, انتبهت إلى الأرض التي كانت مغطاة بعشرات من المقالات السياسية والثقافية والاجتماعية التي لا أعرف بالضبط من جلبها, او هل هي من ضمن الرزم التي كان تأبطها المحاضرون …..)ص23 .
وينتقل القاص بأسلوبه الشيق في السرد ,المضمر بأفكار عميقة لها دلالات معرفية تحاكي مايضمر القارئ اللبيب من ردود افعال على ما يمور بالواقع من فوضى وانهيار للوعي وانحلال اخلاقي للمجتمع وترديه بالتعامل مع الخرافة والاساطير كمخلص من اعباء الحياة, وشل الوعي وتجميده وافقاد الانسان قدراته الكامنة التي تميزه عن باقي المخلوقات بالأرض.
في قصة “مسبحة ابي” تجد الجواب صارخا باحتجاج القارئ(قد نسوا حكاية مسبحة أبي بعد ان توزعت الشوارع وجوه بشر على شكل عقارب كبيرة وأفاعٍ يمسك كل واحد منهم بمسبحة من لون مختلف يداعبونها بأصابع كالمخالب, ويوزعون على المارة ابتسامات صفراء) ص29 .وكذلك قصة “الارث ” لما يتحول الاخوة لأعداء بسببهوتهيمن روح التنافس وحب التملك والاستحواذ التي يتلاشى امامها القيم وسمو الاخلاق الانسانية ( عد ان تقادم الزمن على اخوة اكل روحها الطمع وقطع حبالها الزمن وتقولات الحاسدين )ص 59 .
وهنا في قصة “العظماء يرحلون بصمت ..احيانا” تبرز للعيان مهارات القاص الحاذق في استثمار خبراته ومعلوماته وخزينه المهني في مجال الصحافة بتوظيفه في صنع نص جميل من مادة صحفية شيقة, فتبرز المفارقة بين تشييع ابو ايوب وتشييع الرئيس الامريكي رونالد ريغان وكلاهما عظيمان كما يصفهما السارد . لقد وصف ابو ايوب (لا أدري هل انا امام فيلسوف ام مجنون ام زاهد) ص70 , ووصف الرئيس الامريكي( تفصح عن عظمة الراحل واهميته بين ابناء قومهوربما في بعض انحاء العالم)ص61 . كذلك الفرق بين تشييعهما في بلديهما من قبل ابناء جلدتما (كانت نشرة الاخبار في التلفاز تعيد مقاطع من مراسيم التشييع المهيب لرونالد ريغان … فيما كانت السيارة الصغيرة التي انطلقت من ذلك الحي الفقير تندفع باتجاه مقبرة وادي السلام )ص 79.
واختم قراءتي بالقصة الطويلة بعنونة”عودة الانسان” التي استهلها القاص بآي من القران واخرى من الكتاب المقدس وكلاهما تتفقان على تمجيد الانسان كما خصه الله بذلك منذ البدء بسجود الملائكة له بأمره.
فيها, يستعرض القاص مهاراته السردية وقدرته المدهشة في صنع حبكة فائقة السبك تنم عن مخيال طافح بالسعة لصنع نص كبير وجميل وممتع , القاص عبد الامير المجر يتدفق كالشلال من عل نسمع صوته يدوي بين السطور وتتحس لمساته الابداعية كالرذاذ الناعم المتطاير بالهواء ليلامس نعومة الوجوه ثم ينداح سهلا رائقا ليتركك تعيش سحرية اللحظة في خاتمة بلا تلابيب ليمسك عليه المتصيدون ثغرة في نسيج النص المحكم.
قصة “عودة الانسان” فلسفة السارد في الحياة وتكمن فيه سر المجموعة القصصية وعنوانها اكثر منه في قصة كتاب الحياة , القصة مكتوبة بأسلوب متخم بالتقنيات من الخيال العلمي والمونتاج السينمائي واستخدام اسماء ومصطلحات ملائمة لنص ينتمي للخيال العلمي ظاهرا ولكنه يختلف بالنسق المضمر له , حصر القاص المتعة بمخاتلة القارئ او القارئة بمضمر النص ليجلو اعماقهما ويسحبهما لحقيقة الوجود كله ويفصح عن بؤسه واستحالة بقائه صالحا لبني البشر ويحذر بانه سينفجر حتما مخلفا دمارا كونيا هائلا , لذلك يتمنى ان تعود الحياة لصورتها الاولى من جديد مثل اول يوم نزل فيه ابونا ادم وامنا حواء (لقد بدأت قصة حب من نوع جديد بين الشاب والشابة اذ ايقنا انهما باتا غريبين على الارض التي لم يعد لها اي امل بعودة الانسان الا بارتعاشه جديدة من جسديهما الشابين حين يلتحمان من جديد مأخوذين برغبة دفينة تيقظت في جسديهما )ص114 .