حكايات شهريار.. قصة يعقوب (3)
شرين خليل | مصر
اللوحة للفنان جاك فرانسوا كارابين
جلست أنتظر قريب أمي حتى ينتهي من ارتداء ملابسه فهو طلب مني أن أنتظره قليلا قبل أن أذهب معه في هذه الجولة التي أشتاق اليها كثيرا ..
بدأت أفكر وأنا أنظر في ما حولي وأتساءل هل من الممكن أن أمتلك منزلا مثل هذا في يوم من الأيام؟وهل أيضا سيكون لدي سيارة فارهة مثل سيارته؟
تذكرت أمي وهي تحكي لي أن قريبها هذا قد بدأ حياته من الصفر حيث كان لا يمتلك أي شيء وسافر وإجتهد وتزوج من ،صوفيا ، الزوجة الرائعة التي ساندته حتى أصبح يمتلك هذه الثروة الهائلة لفت نظري أنه لا توجد لديهم خادمة أو سائق فهذه الزوجة الرائعة هي التي تقوم بإعداد كل شيء ..
أين أنتي يا فريدة؟؟ اين أنتي من هذه الحياة؟ أين عقلك وقلبك؟
إخترتي حياة بلا قلب وبلا روح ..
هل نسيتي؟؟!! هل نسيتي ما قدمت لكي عندما كنت أسهر الليالي في إعداد المذكرات الدراسية من أجل أن تتفوقي؟؟ هل نسيتي قصائدي وأشعاري ؟؟هل نسيتي حبي ودقات قلبي ؟؟ أنتي نسيتي عمرك وقلبك ودفنتي روحك وسجنتي نفسك ..
فلترحلي من خيالي ومن أفكاري ..
فأنا لا أريد أن أراكي حتى في أحلامي.. دق جرس الباب وقطع حبل أفكاري.. أسرعت صوفيا لكي تستقبل من جاء لزيارتها ودخلت فتاة رائعة الجمال تدعى ماريان إبنة خالتها ، عرفتها بي فهي تتحدث ببعض كلمات اللغة العربية .
رحبت بي وألقيت عليها التحية وخرج
قريب أمي من غرفته وودع زوجته وأنطلقنا في شوارع البلدة . شوارع رائعة كأنها لوحة فنية .كم تمنيت أن أري المدينة العائمة .لا أصدق نفسي هل أنا أحلم أم هذه حقيقة .
وبعد الإنتهاء من الجولة ذهبنا الى المكان الذي سأعيش فيه فهو بجانب مكان العمل ..
جلس قريب أمي يتحدث معي ويقدم لى بعض النصائح ويوضح لي بعض الأمور الهامة . أخبرني أن القوانين في هذه البلدة صارمة والمواعيد لها إحترامها وأخبرني أيضا أن كل ما أنفقه علي وكل ما سينفقه علي فهو دين علي سألتزم بسداده عندما تتيسر معي الأمور.فالحياة هنا تتسم بالعملية ولا تخترقها المجاملات فلا مكان للكرم الذي أضاع أبي سابقا ..فالحياة هنا كما قال لي مثل الواحد الصحيح ولا تقبل الكسور وطلب مني أن لا أنبهر فكل مكان فيه الجيد والسئ وأنني في النهاية لن أجد أجمل من وطني ..
شجعني بأنه سوف يساعدني حتى أستقر في عملي . فأنا سوف أعمل في الخفاء حتي لا ينكشف أمري فأنا جئت إلى هنا كطالب علم جاء من أجل الدراسة فلابد أن ألتزم الحذر الشديد ولا أخبر أحد بحقيقة الأمر لأن في هذا ضرر كبير علي..
عاهدته علي أنني سأفعل مايريدني أن أفعله فأنا أتمنى أن أثبت وجودي وسوف أعمل وأعمل وأجتهد وأذهب أيضا إلى دراستي وأوفق بين الإثنين وبالفعل كنت أذهب في الصباح إلى المعهد الذي أدرس فيه وبعد الإنتهاء أذهب إلى المطعم الذي أعمل به وأبقى في العمل حتى إنتهاء العمل وأحيانا بعد إنتهاء العمل أغلق علي نفسي الأبواب وأقوم بتنظيف المكان.
ومرت الأيام وأنا مستقر في عملي وأيضا في دراستي إلي أن تقابلت مع فتاة تدعي جيسي هذه الفتاة كانت أرق من الندى كل من يراها يعجب بها من شدة جمالها ولكنها أعجبت بي أنا لا أدري من حسن حظي أم من سوء حظي ..
أتت إلي و تحدثت معي فهي من أصول عربية ورأت في ملامحي الملامح العربية وبالاخص المصرية كنت أتعامل معها بحذر وأضع بيني وبينها حواجز فأنا لا أريد أن أتعرض لصدمة أخري فهي من أصول عربية فإذا ستكون مثل فريده تبحث عن المظاهر والماديات وخاصة أن والدها رجل ذو مركز مرموق وثروة كبيرة .
علي الرغم من محاولاتي في الإبتعاد عنها إلا أنني لم أسلم من الأذي بسببها . فعندما علم إبن عمها الذي يحبها حبا شديدا أنها تحبني، راقبني وعرف عني كل شئ و أبلغ عني الشرطة . ألقت الشرطة القبض علي وكان أسوء يوم مر على في حياتي كان بداخلي قهر وألم .أنتفض من الخوف، أشعر بالضياع .
حلم عمري سوف يضيع وأرجع الى بلدي ذليل، منكسر ومحطم .
ولكن صوفيا لم تتركني فهي دائما لديها الحلول فالحل الوحيد الذي يمكنني من الإقامة في هذه البلدة هو الزواج من إمرأة من أهلها والا سأرحل منها .
كنت رافض فكرة الزواج بهذه الطريقة فأنا أريد أن أتزوج بقلبي و لا أكون مثل فريدة.. لكن لم يكن لدي الخيار فوافقت وكانت المفاجأة عندما عرفت أن المرأة التي سأتزوجها هي ماريان إبنة خالة صوفيا سعدت جدا بها وسعدت أكثر عندما أخبرتني صوفيا أن ماريان كانت تهتم بأمري ودائمة السؤال عني منذ أن رأتني . وتم الزواج .
ماريان رائعة وتشبه صوفيا كثيرا .كانت تكبرني في العمر ولكنها كانت إمرأه جميلة ورقيقة..
وأخيرا تخلصت من مشكلة الإقامة. وأصبح لي الحق أن أعيش بدون خوف.
أخفيت خبر زواجي عن أمي فلو أخبرتها ستكون صدمة كبيرة عليها .
مرت الأيام وأنا أعمل وأجتهد لكي أحصل على المال وأصبح لي إسم معروف وكانت ماريان بجانبي تساندني..
جاء موعد أجازتي فأمي تريد أن تراني وأبي يحتاج إلي فهو مريض .. ويعقوب أيضا كان دائم السؤال عني ويخبرني بأنه يفتقدني بشدة ويريد أن يراني .
وقتها لم يكن هناك هواتف متنقلة ولا صفحات تواصل إجتماعي لم يكن للشبكة العنكبوتية وجود . فكانت الرسائل المكتوبة عبر البريد هي وسائل الاتصال الوحيدة والهاتف المنزلي وكانت الدقائق الدولية باهظة التكاليف.فكان لزاما علي أن ألبي رغبة الجميع وأسافر إلي مصر .
لم توافق ماريان أن تسافر معي وأنا لما أجبرها على فعل شيء لا تريده. وصلت وأستقبلني أهلي بحفاوه وصديقي يعقوب ينتظرني فهو لم يتغير علي الرغم من عمله بإحدي الشركات الكبيرة إلا أنه مازال يرتدي ملابس متواضعه ويتعامل ببساطه .
أمي تنتظر عودتي بلهفة لكي أتزوج فهي تريد أن تفرح بي كما كانت تقول. أخبرتها بزواجي من ماريان سألتني هل هو زواج من أجل المصلحة ؟
لم أرد عليها. كررت السؤال مرارا وتكرارا قلت لها في البداية كان زواج للمصلحة أما الأن فأنا أحب ماريان.فهي التي وقفت بجانبي وساعدتني ولن أتخلى عنها .وحكيت لها فترة معاناتي بعد إلقاء القبض على وحالة الرعب التي إنتابتني وقتها فعندما يدق جرس الباب كنت أشعر بتوقف أنفاسي ودقات قلبي من شدة الخوف .والأحلام المزعجة التي كنت أحلم بها .لن أنسي حالتي عندما كبلتني الشرطة وأخذتني ..ولن أنسي فضل ماريان في إنقاذي من هذه الأزمة..
بكت أمي بكاء شديد ولكنها إستسلمت للأمر الواقع.
وطلبت مني أن تأتي ماريان إلي مصر ونقيم لها حفل زفاف فهذا هو اليوم الذي تنتظره أمي وتتمناه .
لم أكمل الأجازة وسافرت لكي أعود ومعي ماريان .
رفضت ماريان هذه الفكرة وتعجبت من رفضها . قلت لها أن أمي من حقها أن تفرح بي و ترى لي زوجة وأولاد.
شعرت ماريان بأن حياتها معي غير مستقرة و أنني في النهاية سوف أرجع لبلدي وأعيش مع أهلي فقررت الإبتعاد والإنفصال عني وتركت لي رسالة بإنها ساعدتني وأنا الآن لم أعد أحتاج لها .
طلبت منها برجاء شديد ألا تتركني ولكنها رفضت . وإنفصلت عنها وإنتقلت إلى مكان آخر فأنا تركت لها كل ما أملك حتي أرد لها جزء من الجميل الذي فعلته لأجلي..
قمت بتأجير أحد المحال وبدأت أعمل بنفسي.
أرسلت لأمي رسالة أخبرتها بإنفصالي عن ماريان وكان ردها أنها سعيدة بهذا الخبر فلقد كانت تدعو الله في كل وقت أن تتركني ماريان وأتزوج من بلدي حتى لا أعيش العمر كله مغتربا..
مرت أيام وشهور وسنوات أيضا وأمي تطلب مني بإلحاح أن أعود لكي أتزوج تتمنى أن تراني وتري أولادي وأيضا من أجل أبي الذي يشعر بإقتراب أجله .
وجاءت مناسبة جعلتني أسافر إلي مصر وهي زفاف أختي ضحي .
لم تتركني أمي ألتقط أنفاسي فقد أعدت كل شئ وأتفقت مع إخواتي علي حصاري حتي أتزوج ..
وإختارت لي فتاة من بلدة مجاورة لبلدتنا فتاة جميلة إختارتها بعناية فائقة فهي ذات الشعر الأصفر والعيون الخضراء تشبه الأجانب كما قالت لي أمي . ضحكت بشدة وقلت لها يا أمي فأنا مللت من هذا الشكل والأهم من الشكل هو الروح والقلب.
ولن أتزوج بهذة الطريقة .
غضبت أمي بشدة وأبي أيضا
وكالعاده جاء يعقوب ليأسرني بكلامه عن أدب وأخلاق هذة الفتاة وأن أساس الزواج هو المودة والرحمة وهذه الزوجة سوف تساعدني و تقف بجانبي فهي حقا إنسانة رائعة ولن أجد مثلها وأن العمر يمر ولابد أن يكون لدي أولاد ولا أترك نفسي للدنيا تأخذني وهذه الفتاة إختيار صائب . وحثني علي طاعة الوالدين حتي يوفقني الله في عملي وحياتي ..
أقنعني كعادته..
طلبت من أمي أن أسافر وأعود لكي أتمم الزواج فالأجازة قصيرة ولكنها خافت أن أغير رأيي وأخبرتني أن الفتاة وأهلها موافقون وليس لديهم أي مانع من إتمام الزواج . وتم الزواج وسافرت بعد أيام حتي لا أخسر عملي فأنا بدأت من جديد فلقد أنفقت كل ما أملك على هذه الزيجة من أثاث وشقة في وقت وجيز وأيضا زواج أختي ضحي كلفني الكثير ..
أنهكت نفسي في العمل ليل نهار حتي أعوض ما أفتقدته من مال ونسيت أني تزوجت وأهملت زوجتي وبدأت الخلافات بيني وبينها تشتد .ودائما تشتكي مني لأمي وإخوتي وكالعادة
تنحاز أمي إلي زوجتي ضدي فأمي دائما تراني مخطئ .
و لابد أن أتحمل عصبية زوجتي لإنها سوف تنجب لي ولي العهد والحفيد المنتظر فالطبيب أخبرها بأنها حامل ولابد من الراحة وعدم الأنفعال …
كنت سعيد بهذا الخبر ولكن سعادتي لم تكمل بسبب خبر وفاة أبي .
أصابتني صدمة عصبية وتركت العمل لفترة حتي بدأت في التعافي وقررت السفر لمصر لكي أطمئن علي أمي وأكون بجانب زوجتي أثناء عملية الولادة وحددت موعد السفر وسافرت لأجد أمي في حالة سيئة علي الرغم من مرور شهور علي وفاة أبي.. أمي التي كانت تمتاز بالشخصية القوية أجدها في حالة يرثي بها .تنزعج من أي شئ وتبكي علي أي شئ وذهب بها أخي لطبيب أمراض نفسية ولكن دون جدوى .
أقترب موعد قدوم الحفيد المنتظر ووجدت في هذا الأمر علاج لأمي وخروج من حالتها الكئيبة وقبل موعد الولادة بيومين جاء لي خبر صادم جدا وهو خبر وفاة صديقي يعقوب في حادث .كان الخبر بمثابة صاعقة أصابتني ..
دارت بي الدنيا وشلت أطرافي وسقطت مغشيا علي من أثر الصدمة وأحضروا لي الطبيب في المنزل ولم أستطع الذهاب إلي جنازة يعقوب .لم أودعه في رحيله عن عالمنا فهو بالتأكيد في مكان أفضل ولكن فراقه صعب كان أصعب علي من فراق أبي
رحلت يايعقوب ورحل معك كل شئ جميل .لا أستطيع أن أتحرك من مكاني فوفاتك يايعقوب شلت أطرافي ،حتي زوجتي لم أستطع أن أذهب معها للطبيب ولكن إخوتي لم يتركوها وأنجبت لي الحفيد المنتظر فهو كما تمنت أمي ولد يشبه أمه في جمالها . كان قدومه بمثابة الأمل لنا جميعا فهو البهجة المنتظرة والقنديل الذي سيضئ لنا حياتنا المظلمة ..
ساندني أخي هشام لكي أذهب إلي زوجتي في المستشفي فأنا مشتاق لرؤية هذا الصبي أخذته في حضني وبكيت بكاء شديد وتحدثت معه وكأنه رجل كبير .،نظرت لي زوجتي في دهشة وسألتني ماذا تفعل أنه لايفهم شئ ..تجاهلت كلامها وإستمريت في كلامي معه وكنت أشعر بإرتياح شديد وأنا أتحدث معه وأحكي له قصة حياتي وأطلب منه أن يكون سندي ولا يتركني فأنا طيلة عمري أشعر بالوحدة ووعدته أنني لن أتركه ابدا وسيبقي في حضني للأبد فأنا أحتاج لحضنه أكثر من إحتياجه هو لحضني ..
سألتني زوجتي عن الإسم الذي سأختاره له
أخبرتها انني إختارت له الإسم من قبل أن يولد وهو إسم يعقوب
إندهشت زوجتي ولكنها كانت تعرف مدي حبي ليعقوب ومدي حب يعقوب لي فأنا لو سافرت لكل أنحاء العالم فلن أجد مثل يعقوب
أتمني أن يكون إبني مثل يعقوب ..يعقوب كان طيب الأثر .فالجميع حزن حزنا شديدا لوفاته .
الآن فهمت لماذا كانت أمي تطلب مني دائما أن أكون مثل يعقوب .فهمت عندما أصبحت أب وعندي مشاعر الأبوة ..
جاء الطبيب وأخبرنا أننا يمكننا الذهاب للمنزل فكل شئ علي مايرام
ذهبنا إلي المنزل وكانت أمي تنتظر بلهفة وشوق وأخذت يعقوب في حضنها ودموع الفرح تتساقط من عينيها ..فلتفرحي يا أمي فلقد جاء يعقوب ..
ومرت الأيام وجاء موعد سفري ووجدت زوجتي …