ذكرياتي مع شيخ النحاتين محمد غني حكمت
رجاء حميد رشيد | العراق
التقيت شيخ النحاتين محمد غني حكمت رحمه الله مرتين ، الأولى في منتصف تسعينيات القرن الماضي، وكنت أعمل مديرة قسم الرقابة والتدقيق الداخلي في دار الشؤون الثقافية العامة الكائنة في سبع أبكار ببغداد إحدى تشكيلات وزارة الثقافة والإعلام حينها، عندما طرق باب مكتبي يسأل عن مطبوع له، ودعوته للجلوس واتصلت بزميلتي وصديقتي سناء سامي مسؤولة شعبة الإنتاج في المطبعة لتسليمه نموذجاً مطبوعاً أولياً لكراسه الفني الخاص بتخطيطات أعماله النحتية واحتساب كلفة الطبع، وهنا تعرفت على صاحب نصب شهرزاد عن كثب وكانت فرحتي لا توصف فالحظ حالفني وشيخ النحاتين يجلس معي ويحدثني عن كراسه الفني المزمع طبعه في الدار وكان قراره متوقفاً على كلفة المطبوع ليعطي الموافقة بالشروع في الطبع من عدمه، كان حديثاً شائقاً عكس سمو ونبل أخلاقه، كان بسيطاً وودوداً في حديثه معي، كنت في بداية السنة الخامسة على تعييني في دار (آفاق عربية)، وهو قامة فنية عراقية يشار لها بالبنان فناناً كبيراً فنا وخلقا وأخلاقا ،أعجب الفنان بأصص نباتات الزينة من اللبلاب ونجم البحر وبأغصانهما الممتدة على جدران غرفتي ونباتات الدنفباخية والهويا وسفينة نوح ودم العاشق التي غطت زوايا الغرفة بألوانهما الخضراء المشربة بالأحمر والأرجواني والروز الفاتح للوريقات المتفتحة عن براعمها، ولفتت نظره مجموعة الصور الورقية غير المؤطرة لقطط بيضاء جميلة بلقطات مختلفة لصقت على الحائط بين نباتات الزينة ، وتعجب عند سماعه تغريده البلبل في القفص الذي فرض نفسه بدخوله غرفتي من الحدائق المحيطة بأقسام الدار بحكم طبيعة بنائها الأفقي ولم يقبل بحريته عند إطلاقي سراحه فاحتفظت به واسميته توتي.
اتصلت مرة أخرى لمتابعة معاملته خجلاً من تأخيره فبادرني قائلاً: أنا لست في عجلة خاصة وإنَّ كل شيء في مكتبك يضج بالحياة والجمال والأنوثة والطفولة معاً،وسألني هل تحبين القطط؟ فأجبته :نعم أنا أحب الحيوانات تلك الكائنات اللطيفة تسعدني وأحبها وهي تحبني، ابتسم وهو يعلق على كلامي: وكيف تعرفين أنها تحبك؟ قلتُ:نعم أستاذ الحيوانات تحب وتحس بمن يحبها وتبادله نفس المشاعر فهي مثل البشر تماماً وأحياناً ـ مع احترامي ـ يكونون أكثر وفاء، سكت برهة ونظر إلى صور القطط وقال لي: إذن أنتِ صديقتي؛ فحب القطط هو الصفة المشتركة التي تجمعنا فأنا أيضاً أحب القطط ولديَّ نفس شعورك اتجاهها فهي فعلاً كائنات تحب من يحبها، وتربيتها تمنحنا مشاعر من السعادة نحن بحاجة لها “، وتابع”ولكن للأسف زوجتي لا تحب القطط ولا توافق على تربيتها ودخولها بيتنا، مما اضطرني لتربيتها في مشغلي الفني، وأخذ يحدثني عن قطته الجميلة وكيف تعاكسه وهو مشغول بعمل نحتي في مشغله وأنا حدثته عن قططي في البيت (ليلو وأولادها أنوش وبوبو ) ،وبعد استلامه كراسه وقبل أن يغادر مكتبي متوجهاً إلى مكتب المدير العام وجه لي الدعوة لزيارته في مشغله ومشاهدة أعماله النحتية وقطته الجميلة في الأستوديو الخاص به في شارع 14 رمضان ببغداد (كان هنري زوفوبودا صديقه الهنغاري الأصل قد صمم ونفذ أستوديو محمد غني حكمت قرب مطعم الساعة…) وكان هذا أول أستوديو في العراق عام 1964، كان قد صممه على الطريقة الإيطالية، كان هنري كما يقول: محمد غني ” عنده نظرة فنية خاصة، وله علاقات جيدة معنا، وكان مدرساً متميزاً في كلية الهندسة “، ولكن للأسف لم تسنح الفرصة لتلبية الدعوة ومرت الأيام والأعوام.
أما لقائي الثاني والأخير معه ففي عام 2010، و كان قد تجاوز عامه الثمانين خلال تلبيتي للدعوة التي وجهتها لي السيدة صفية السهيل عضوة البرلمان العراقي عن محافظة بغداد آنذاك خلال اقامتها حفلاً بمناسبة يوم بغداد والاحتفاء بشيخ النحاتين الفنان محمد غني حكمت في حديقة منزلها الكائن في حي القادسية/ مجمع الوزراء ، كان حفلاً رائعاً من حيث التنظيم والترتيب يليق ببغداد ونحاتها صاحب أشهر النصب الفنية كهرمانة وشهرزاد بغداد والحرية، حضر الحفل حشد كبير من المثقفين والأكاديميين والفنانين التشكيليين والإعلاميين وعدد من السفراء والدبلوماسيين الأجانب، وقدم الحفل زوج السهيل السياسي الكردي وزير حقوق الإنسان العراقي السابق بختيار جبار محمد أمين حيث قدم السيرة المهنية والفنية للفنان باللغتين العربية والانكليزية، كما تخلل الحفل بعض الفقرات الفنية المتنوعة التي أضفت جواً جميلاً للحفل مع عشاء فاخر على أنغام المقام العراقي في الخيمة العربية التي اتخذت جانباً من حديقة المنزل الجميلة محاذيةً للمسبح ، لم تسنح لي الفرصة للتحدث إليه عن قرب لمغادرته الحفل بعد الانتهاء من تقديمه والحديث عن سيرته، وللأسف التقطت عدة صور معه ولكن التقنيات الحديثة والهواتف الذكية من سلبياتها فقدان الصور عند إجراء أي تغيير بالهاتف مما يؤثر على كل البرامج ويؤدي إلى فقدانها وكان المفروض حفظ الصور في مكان امن آخر.
بدايات محمد غني حكمت
ولد محمد غني حكمت ببغداد في مدينة الكاظمية في سنة 1929، ومنذ أن كان صغيراً وتحديداً في عمر الرابعة بدأت ميوله واهتماماته الفنية بالظهور فكان يقوم بتشكيل التماثيل والأشكال من الطين المتشكل أثناء فيضان دجلة، التحق بمدرسة الكاظمية الأميرية عام 1936، وتعلم صنع القوالب من الجِبس من عبد الحسين محروس، والذي كان موظفاً حينها في متحف التاريخ الطبيعي ،عندما كان طالباً في المرحلة الثانوية علمه أستاذه رشاد حاتم كيف يرسم المنظور فكان لهذا الأستاذ أثرٌ كبيرٌ عليه وتأثر بشكلٍ كبيرٍ بأسلوبه ،بعد أن أنهى دراسته في مدرسة الكاظمية التحق محمد غني حكمت بمعهد الفنون الجميلة حيث في بغداد، وهناك تأثر كثيراً بمدرّسه جواد سليم والذي كان قد عاد حديثاً من دراسته في إنكلترا ، العلاقة بين التلميذ والمعلم تحولت إلى صداقةٍ عميقة وخاصةً بعد انضمام حكمت لجماعة بغداد للفن الحديث، بعد أن تخرج من المعهد في سنة 1953 سافر لروما من أجل استكمال دراسته، ليحصل من هناك على دبلومٍ في النحت في سنة 1959، وعلى شهادةٍ من معهد لازكا بصناعة الميداليات في 1956 ،بعد ذلك انتقل إلى فلورنسا من أجل الاختصاص في صب البرونز، وحصل على شهادةٍ في اختصاصه هذا في سنة 1961.
لم يكن أحد من أفراد عائلته قد مارس فن الرسم أو النَحت، وتُعتبر أُسرته من الأُسر المُحافظة حيثُ كان يَنظر البَعض إلى فَن النَحت على أَنه من الأُمور المُحرمة في نظر الشرع ، استناداً إلى مقابلة مع النحات محمد غني حكمت ذكرَ فيها أنَّه قد يكون هُناك أثر لِطفولته في سبب اختياره لهذه المِهنة، حيثُ كانَ يَذهب إلى نَهر دجلة وَيعمل من الطين الحر أَشكالاً لحيوانات أو قد تكون الزخارف والمقرنصات والقباب التي كانت تزين الأضرحة في مدينة الكاظمية الأثر الخفي في نُزوعه إلى فن النحت.
الجوائز والمشاركات
يعد محمد غني حِكمت من الأعضاء المؤسسين لِجماعة الزاوية وتجمع البُعد الواحد، وعضو في جَماعة بغداد للفَن الحَديث حيثُ ساهم في الكَثير من مَعارضها، وكان عضواً في جمعية الفنانين التشكيليين العراقية منذ تأسيسها، لَه دور فعال في المعارض الوَطنية المَحلية والدَولية، كما أقام عِدة معارض شَخصية في روما، وَبيروت، ولندن، وَبغداد.
وحصل حكمت على العديد من الجوائز، منها ما هو محلي ومنها ما هو عالمي ففاز في عام 1958 بجائزة تقدير من عمدة روما ،في العام التالي حصل على جائزة تقدير من المعرض العالمي فيا مارغوتا، وفي عام 1964 حصل على جائزة كولبنكيان وسمي أفضل نحاتٍ عراقيٍ لذلك العام ،في عام 1994 منحته وزارة الثقافة اللبنانية جائزة الدولة اللبنانية، وفي عام 2002 منحته جامعة الدول العربية جائزة تقدير ، في عام 2010 فاز بجائزة تكريم الإبداع العربي عن إنجازات العمر – قطر، وفي عام 2015 اختيرت نافورة كهرمانة كرمز للتراث الوطني في الذكرى السبعين لتأسيس الأمم المتحدة.
أسلوبه
تظهر في تجربة النحات محمد غني حكمت سمات أسلوبية ناتجة عن تأثره “بالنحت السومري والأختام الأسطوانية السومرية بما تتركه من تعاقب الأشكال المستطيلة المستدقة في الطين الذي تطبع فيه وهو أمر ظاهر في العديد من أشكاله”، وَلدى محمد غني نبرة تعبيرية تذكر الناظر إليها بالنحت الآشوري أو البابلي أو الأكدي، ومنذُ منتصف الستينيات تحول محمد غني في نحته إلى فن العمارة الزخرفية ثم اعتمد على نظام تكراري يتشكل بوحدة نظامية أساسها الحرف العربي واتجه كُلياً إلى نماذج وتشكيلات وتكوينات جاءت نتيجة متابعة تجريدية لأشكال تشخيصية سبق أن عالجها.
عبرَ مُحمد غني حكمت عن نفسه في مُقدمة كتابه عام 1994 قائِلاً “من المحتمل أن أكون نُسخة أخرى لروح نَحات سومري، أو بابلي، أو آشوري، أو عباسي، كان يُحب بلده”.
إنجازاته
صمم حكمت مَجموعة من التَماثيل والنُصب وَالجداريات في بَغداد، وَمن أهمها:ِتمثال شهريار وَشهرزاد، نَصب كهرمانة في ساحة كهرمانة وَسط بغداد،علي بابا والأربعين حرامي، تمثال عشتار في فندق عشتار شيراتون، وهوَ أحد فنادق وَمعالم بغداد المَعروفة، حمورابي، جِدارية مدينة الطب ، تمثال للشاعر العربي المَعروف أبو الطَيب المُتنبي ، نَصب الحرية: من إعداد النَحات المعروف جواد سليم ويعد هذا التَصميم مُجسداً لمسيرة الشعب العراقي من زَمن الاحتلال البريطاني إِلى العهد الملكي ثُم النظام الجمهوري حَتى وافاه الأجل، وَأكمل محمد حكمت إنجازه، نصب إنقاذ الثقافة، نصب الفانوس السحري، نصب العراق ينهض من جديد.
كَما أنجز حِكمت في ثمانينيات القرن الماضي إحدى بوابات مُنظمة اليونيسيف في باريس وَثلاث بوابات خشبية لِكنيسة تيستا دي ليبرا في روما لِيكون بذلك أول نحات عربي مُسلم ينحت أبواب كنائس في العالم، فضلاً عن إنجازه جدارية الثَورة العَربية الكُبرى في عَمان وَأعمال مختلفة وَمتنوعة لَه في البحرين تَتضمن خمسة أبواب لِمسجد قديم وَتماثيل كبيرة وَنوافير .
أشهر أقوال محمد غني حكمت
إنَّ أعمالي يمكن أن تكون طريقاً لفكرة أو استمراراً لها ، لقد اكتشفت إمكانية عمل التجريد في النحت الحديث من خلال مواضيع وأشكال محلية بدون أن أتطرق إلى أي نحات أوربي ، وقادتني تجربتي إلى وضع بعض المفردات من الأبواب في تماثيلي ،وأدخلت من جانب آخر بعض مفردات تماثيلي من الأبواب التي اصنعها ، وكل باب يجمل شكلاَ مغايراً يختلف عن الباب الآخر ، هدفي هو توجيه الأنظار إلى إمكانية الاستفادة من الموروث الحضاري وإعطائه شكلاً جديداً يحمل الحداثة والمعاصرة التي لم اقتطع أي تفصيل من أي باب قديم واضعها في عملي ،ولم أنقل ( مفردة ) جزئيات سابقة من أي باب آخر .
وقال حكمت في آخر حوار معه أجرته الكاتبة غادة السمان خلال زيارتها لبغداد 1972عن أعماله ومشاريعه الفنية في بغداد ورسالته ” إنَّ استلهامي للحضارة العراقية شخصياً أجده شيئاً طبيعياً بالنسبة لي لكوني ابناً لهذه الحضارة، أنا سليل حضارة وادي الرافدين فمن الطبيعي جدا أن استلهم أفكاري ومواضيعي من حضارتي، وهنالك ثلاثة مواضيع تؤكد على محبة بغداد والعراق، وأولها مستوحى من الأساطير (فانوس علاء الدين) ويضم نافورة مائية خط في محيطها شعر الشاعر العراقي الكبير (مصطفى جمال الدين) القائل :(بغداد ما اشتبكت عليكِ الأعصر إلا ذوت ووريق عمرك أخضر).
أما العمل الثاني فيمثل تمثالاً لختم اسطواني (على غرار الختم البابلي الشهير) وكأنه يسقط وهنالك خمسة أيادي بسواعدها تمسك بالختم وتحاول إسناده كي لا يقع.. إنها رسالة لأب عراقي بأنَّ ذراعك هو أحد هذه الأذرع التي تمسك بالختم رمز الحضارة لتحميه من السقوط.. ولعلَّ الخمسة كرقم يمثل تعددية الواقع القومي والديني في العراق وما يجمعها من رصيد حضاري مشترك.. وقد كتب على الختم عبارة (من هنا بدأت الكتابة)، وهذا الموضوع من المواضيع التي أعتز بها، وسيرى النور قريباً، الموضوع الثالث هو امرأة تمثل بغداد وتجلس على عمود من الحجر.. العمود الحجري يرتفع لتسعة أمتار، وقد نحت عليه كل الأشعار التي تمجد بغداد ،كل هذه الأعمال أسعى من خلالها لتحفيز العراقي على محبة تراثه وماضيه وحضارته.. وهذا ما نحن نفتقده بشكل تدريجي في ضوء من يحاول تعليمنا كل شيء غير عراقي لأنَّ من لا يشعر بالحب لبلده سيعيش غريباً فيه ” .
حياته الشخصية
أول أستاذ نحت بتاريخ العراق وتم تعيينه في معهد الفنون الجميلة عام 1962،كان يحب الموسيقى ،بدأ الاستماع للموسيقى على جهاز ” الكرامافون”،كان يستمع لأغاني محمد القبانجي ومحمد عبد الوهاب وأم كلثوم ،كما أحب الشعر وخاصة للملا عبود الكرخي ، تزوج محمد غني من غاية الراوي الرحال، وهي امرأة عراقية وشقيقة للنحات العراقي الكبير خالد الرحال ابنهما الأكبر اسمه ياسر والبنت الكبرى اسمها هاجر.
وفاته
في الأشهر الأخيرة من حياته كان حكمت يعاني من فشلٍ كلوي، وتوفي عن عمرٍ يقارب الـ82 سنة في الأردن بِتاريخ 12 أيلول 2011 ، فتمّ تشييعه بحشدٍ كبير ونقل جثمانه ملفوفاً بعلم العراق إلى مطار العاصمة الأردنية لينقل إلى بغداد ، تُوفيَ أحد أهمّ النحاتين في الشرق الأوسط والعالم، وهو فنان استطاع تحويل الطين إلى قطعٍ فنيةٍ تسلب الأبصار وتملأ تماثيله ساحات العراق ومختلف ساحات العواصم العربية والعالمية الأخرى، فكان بذلك يستحق بكل جدارة لقب شيخ النحاتين.
احتفلت شركة غوغل في شهر نيسان عام 2016 بذكرى ولادته فوضعت رسم نصب إنقاذ العراق على الصفحة الرئيسية لموقعها.