رمزية الآخر/الظِّل  في قصيدة (تأوهات) للشاعر أحمد البياتي 

أ.د مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي

 الظِّل في المفهوم الفيزيائي هو الخيال الناتج عن سقوط أشعة الشَّمس على جسمٍ معين، والظِّل ملازمٌ للأصل ، ولكنهُ قد يوظَّف للدلالة على حالة الذات التي تنقسم على نفسها وهي في طريقها إلى تحقيق حلمها في وقتٍ كانت فيه متحدةً مع ظلها، وبانهيار ذلك الحُلم لم يعد بمقدور الذَّات المحافظة على ذلك الاتحاد بينها وبين ظلِّها فتبتعد عنهُ([1])، ولذلك يعمدُ الشَّاعر احمد البياتي أحياناً إلى عَرض نصِّهِ الشِّعري برمزيةٍ معينةٍ تُحيلُهُ إلى دَلالاتٍ شعريةٍ متنوعةٍ تختزنُ بداخلها تأويلاتٍ متنوِّعةٍ لها وَقْعُها الخاص في نفسهِ , وتُشعِر المتلقَّي في الوقت ذاته بأنَّ مثل هذهِ الدلالات تعكسُ صراعاً داخليَّاً للذات بتآلفِها معهُ إيجابيَّاً عندما يكون ملازماً ومُواسياً لهُ، وأحياناً يكونُ هذا الآخر غريباً تجدُ الذَّات صعوبةً في التَّوافق والتَّعاطي الإيجابي معهُ , لذا فان الشاعر احمد البياتي  يستبطنُ معاني الخشيةِ والخوفِ , وينتقلُ في عَرض أفكارهِ من فكرةٍ إلى أخرى بطريقةٍ غير منتظمةٍ تعكسُ لنا تداعي ذهنيتهِ وأفكارهِ فيقول في نصِّهِ ( تأوهات): 

على وشك الاختفاء والتلاشي

قلق خفي يعتصرني

أتأمل انطفاء صورة ملاذات العزلة

مزّقت سر رؤى حزينة

وصوت الوهم الصاخب

تحت رذاذ المطر

يقرّبني من السماء

 إذ يفتتحُ الشاعرُ قصيدتَهُ بإدراكٍ ذاتيٍ لطبيعتهِ وكينونتهِ الإنسانيةِ , إلَّا أنَّهُ يُحيطُ نفسَهُ بمصادر القلقِ والتَّوجُّسِ النَّاتجِ من هذا الظِّل الغريب , فدلالةُ الظِّل أنَّهُ يمثِّلُ ملازماً وجوديَّاً لحقيقة الإنسان , ولا يبعث على الرَّيبةِ أو الشَّكِ , إلَّا أنَّ خوف  الذات منهُ يمثِّلُ توجُّساً مرحلياً يترنَّحُ بين الوعي واللاوعي كاشفاً عن عدم التَّوافق معهُ , كما يدلُّ ذلك في حقيقتهِ عن وجودٍ قهريٍّ لدلالة الظِّل يعيشُ تحت وطأتِها الشاعر البياتي , فهو من جهةٍ يُدرك أنَّ ذلكَ الظِّل خطرٌ على كيانهِ وحُريتهِ ، إذ أمسى شيءٌ مرعبٌ يخلقُ لهُ الأزمات , ويعيشُ على حطامِ أمانيهِ ورغباتهِ , ومن ثَمَّ فإنَّ من شأنِ ذلكَ الألم والشَّقاءِ النَّفسي أن يوقظ الوعي الذاتي للشَّاعر وإجبارِهِ على التفكير والتَّخلص من هذا القمع والاستلاب النفسي والخوف من المصير المجهول  فنراهُ يقول أيضاً:

هلعٌ راجف يتحرك في الرأس

متاهات مضادة تنكمش

أصابتني بالفزع

انزلق على سطح الماء

باحثاً عن نوافذ مشرعة

يا لها من سخرية مريرة

بين الجدران امكث حزينا

ابحث عن شعاع شمس يعصف بي

أكابد دوامة سراب موحش

 يرسمُ لنا الشَّاعر احمد البياتي  دلالةً مُخيفةً عن ذلكَ الوحش أو الظِّل , ثمَّ يستطرِدُ بعيداً إلى ذكرِ غزلهِ بمحبوبةٍ معلومةٍ لديهِ , وهذا يدلُّ على عدم التزامهِ بالتَّسلسلِ المنطقي لعرض الأفكارِ , فهذا الأسلوب يقعُ ضمن الأساليب التي يسلكها تيَّارُ الوعي , ويتمُّ عن طريق إحضار الشاعر البياتي كثيرٍ من الأفكارِ بحسب ما يَتَدَاعَى في ذهنهِ , ومن غير أيِّ التزامٍ بالتسلسل المنطقي ,  لهذا نرى الشاعر ينتقلُ بقصيدتهِ من موضوعٍ إلى آخر , ومن فكرةٍ إلى أخرى , وغايتهُ في هذا إخبار القارئ بكُلِّ ما يدورُ في ذهنهِ مع أخذهِ بنظر الاعتبار وجود السَّامع أو المتلقِّي ، إذ تَتَداعَى الأفكار في النَّفس البَشريَّةِ بشكلٍ غير مرتَّبٍ , وغايتُهُ الرئيسةُ من ذلك بثُّ الأفكار المختلفة للسامع أو القارئ([2]), ويعودُ مرةً أخرى لإثبات طبيعة الظِّل / الآخر المرأة التي سلبت كيانه, ووجوده , ويقرُّ بوجودِها حولَه فنراه يقول:

تحت سقف كئيب

ابحث للخلاص من ضجر ممل

وتجاعيد وجهي الذابل

ارتسمت كظلال على الأرض

بخطوات متثاقلة ابتعد عن غشاوة ليل حالك

حلم الماضي يشتعل

اذابني في تأوهات ملتهب

  إذ يوظِّفُ الشاعر البياتي  الظِّلَّ هنا بتقنيتهِ الفيزيائية وتقرير عدم مُفارقة الظِّل لصاحبهِ , إلَّا أنَّهُ يعيشُ تَغريباً بينهُ وبين ظلِّهِ , إذ يصرُّ على استنطاقهِ وانقاذ الشاعر من مواقفٍ معينةٍ , وهذا يدلُّ على رغبة حضور الظِّل واتِّحادِهِ مع صاحبهِ ؛ لتجاوز حالة الانشطار الثُّنائي التي كانت سبباً في عزلِ الشاعر عن ظلِّهِ , ومُناجاة الشاعر لهُ كانت دليلاً واضحاً على تلكَ الرَّغبة , فهو يهدفُ إلى تقريبِ هذه الثُّنائية بين الإنسان وظلِّه إلى نفسِهِ ، وإدراكهِ في الوقتِ نفسِهِ أنَّ التَّفريقَ بينهما ضربٌ من الخيال , لذلكَ عمدَ إلى معاتبةِ ظلِّه واسترقاقِهِ مع أنَّ المحاولة أتعبتهُ , وأفضت بهِ إلى مهاوي العَذَاب والإرهاق  النَّفسي , ونلحظ أنَّ هذا النص لا يهتمُ كثيراً بتحديد النَّهايات في النص ,وإنَّما ترك تحديد بقايا الصُّورة للمتلقِّي وهذا أمرٌ يُحسَبُ كثيراً للنصوص المنحازة ([3]), فنراه يقول :

كلمات مندلقة من فم أجوف

كن متماسكاً

بعد اغماضة واهنة

أوشكت على الإغماء

صوت من بعيد

كل شيء من حولك

سراب في زواياك المهمشة

أنَّ الشاعر احمد البياتي في تشييئهِ لظِلِّهِ ومحاكاتهِ إيَّاه لهُ دلالتان : دلالة إيجابية تتجلَّى في الاستعانةِ بهِ ومعاتبتهِ , ودلالةً سلبيةً تقودها رغبةُ الإنسانِ في الانفصالِ عن ظلِّهِ , أمَّا سبب هذا الشُّعور السلبي فهو حدوثُ تموجات نفسيَّةٍ أدت بالشاعر إلى استشعارهِ خطر الظِّل المُحدقِ بهِ , مع أنَّ الظِّل لا يتحكَّمُ بأفعالِ الإنسانِ فهو لا يعدو أن يكون كياناً صامتاً لهُ أفعالٌ تلتصقُ بأفعالِ صاحبهِ , وهذا ما يفرضُ على الشَّاعر في نهايةِ الأمرِ أن يعود إلى ظلِّهِ , ويتلذَّذ بعذاباتهِ.

ما يميز الشاعر المبدع احمد البياتي في قصائده بصورة عامة , وفي هذه القصيدة على وجه الخصوص تجري الألفاظ فيها على نسقٍ تأمُّلي , يُريد أن يجعل منه متنفَّساً لفلسفةٍ خاصةٍ غرضُها محاكمةُ نقائض عصرِهِ , لذا فهو يسمح للغموض أن يتموضع داخل نصِّهِ الشِّعري , كما يعمد إلى قلب سياق بعض المفردات الإنشائية , التي تنفتح على عوالم لانهائية , فالتعابيرُ حُبلى بشتَّى المعاني التي تنتظر مَن يسدل الستار عنها , ويتكشف دلالاتِها الإيحائية المختلفة , وهذا بطبيعته يرجع إلى ثقافة المبدع البياتي وطواعية لغتِهِ , والرغبة في الانسياق إلى الجديد وترك الألوان الشعرية القديمة , لتأتي صورتُهُ الفنية مستنفذةً جميعَ الوسائل التي تُحقِّق له سُبُلَ إيصال الموضوع الشعري؛ بُغيةَ التفاعل معهُ والإحساس به من قبل القارئ/ المتلقي.

المراجع:

([2]) ينظر : الحوار في شعر عبد الله البردوني : 80 – 81 .

([3]) الصور الاستعارية في الشعر الحديث : 304 .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى