في رحاب خليل الرحمن (2)
بقلم وعدسة: زياد جيوسي
ومن حي الى حي ومن سوق الى سوق ومن مكان إلى مكان في رحاب خليل الرحمن واصلت جولتي مع مضيفينا الأصدقاء الدكتور خالد سدر وكان مدير صحة الخليل في تلك الفترة، ومع زوجته السيدة وصال حمدان برفقة مرافقي الرحلة دارا عبد الحليم ووالدتها سوسن نجيب، وفي كثير من المناطق دخلنا في بوابات وشوارع تحت الأبنية حيث يكون الممر على شكل عقود وأقواس “قناطر”، وبيوتات الخليل التراثية متميزة بنمطها المعماري وأشكالها، فهي تختلف عن نظام الأحواش المنتشر في ما يزيد عن 400 منطقة في فلسطين، وتختلف عن بيوتات العقود المتصالبة والمتوازية المنتشرة في بعض القرى حتى الآن وكانت في المدن ايضا في الابنية القديمة قبل اجتياح الحضارة لها، والعديد من أبنية الخليل التراثية تتكون من دوربن أو ثلاثة أدوار، ومعظم الممرات بينها مبلطة وقوسية من الأعلى ولكنها ضيقة وليس مثل شوارع الأسواق، والعديد من المباني توجد فوقها جدران بفتحات تسمح برؤية من بالخارج بدون أن يتم رؤية من ينظر منها.
ولعل نمط الأبنية وتميزه يعود لطبيعة الموقع، فهناك المسجد الابراهيمي والمعتقد أن سيدنا ابراهيم وزوجته سارة ويعقوب واسحق وزوجاتهم دفنوا فيه، والذي مر انشاؤه بفترات زمنية مختلفة حتى أصبح مسجدا ومكانا للعبادة، كل فترة كان لها دورها بالبناء والإنشاء والإستخدام، وكون الخليل القديمة أنشئت في وادي الخليل الذي يمر من الشمال الشرقي الى الجنوب الغربي، وهذا الوادي الذي كانت تجري به المياه كان جنة للمزروعات وخاصة عنب الخليل المشهور عبر العصور، والفاكهة بأصنافها إضافة للزيتون، وإضافة لواد الخليل ساهمت ينابيع الماء الكثيرة بنمو المدينة ومحافظتها على العمران عبر العصور التاريخية المتعاقبة، رغم ان بدء تشكلها بمحيط الحرم الابراهيمي أبعدها عن تل الرميدة الذي كان الأساس للمدينة حين أنشأها الكنعانيون، وكونها مدينة تاريخية اختلفت عن غيرها من المدن التي انشأت في الفترة العربية الاسلامية التي كان المسجد فيها هو مركز المدينة، ومن حوله مقر الحاكم ومؤسسات الدولة، ومن ثم التوسع بالبنيان والأحياء بشكل شعاعي.
ونلمس في الخليل أن المباني التراثية والأحواش الصغيرة والكبيرة متصلة مع بعضها سواء بالتلاصق أو عبر القناطر، وعامة البيوت التراثية تتكون من طابق ارضي تختلف عدد الغرف فيه اضافة لوجود قبو تحته، وعادة الطابق الثاني لا يختلف كثيرا، وفي بعض الأحيان توجد العلية فوق المبنى ولها كما نظام المباني التراثية سلم حجري خارجي للصعود اليها، وكان هناك اهتمام خاص من المعماريين لزخرفة النوافذ القوسية حيث نجد دوما حجر مزخرف أعلى القوس العلوي، وبين اعلى النافذتين الطوليتين إن كانت النوافذ متجاورة أو متقاربة، وكذلك فوق أقواس البوابات للبيوت، وقد لفتت نظري بوابة لبيت مزخرفة بطريقة مميزة في القوس العلوي فوق الباب المستطيل وبجواره من الجهتين وكأنها أعمدة ولكنها منقوشة من ضمن الحجارة وليست أعمدة مستقلة وتبعد عن طرفي البوابة مسافة نصف مدماك حجري من الجانبين، وفوق الأعمدة تيجان منقوشة أيضا كجزء من الحائط ليعلوها قوس النافذة العلوي للباب والمصمم بثلاثة اطارت مزخرفة ومتداخلة بجمالية خاصة، والنافذة القوسية فوق أعلى الباب توجد عليها حماية معدنية مزخرفة بابداع وعليها تاريخ البناء 1343 ه، وقد لفتت نظري بوابة أخرى جميلة بشكل كبير، وهي مستطيلة الشكل للباب المحاط بالحجارة المقصوصة على شكل ناعم وأملس، وأعلاها مدماك حجري وضع بشكل طولي مع تداخل مع بعضها بشكل بروز وتجويف نصف دائري في منتصفها شكل زخرفة جميلة، وبجانب الباب عامودين حجريين مع تيجان منقوشة بزخرف جميل مثلت القاعدة للقوس الحجري داخل الحائط مع بروز للخارج بحجارة وضعتها بحجم عرضها من فوق التيجان وفي فجوة الحائط ليصبح الباب في التجويف الداخلي، وتحت القوس الحجري دائرة حجرية بها نقش لزهرة من ثمانية أوراق حجرية وزهرة في الوسط.
إضافة أن القناطر في الأزقة تمتاز بالبناء فوقها فتربط طرفي الشارع والزقاق، وهذا كان يتيح إمكانية الحركة فوق الأسطحة في لحظات الضرورة، وفي تجوالي في حارات وأحياء البلدة القديمة كنت ألمس بوضوح أن معظم المباني في قاعدتها من الفترة المملوكية واعتلتها مباني من الفترة العثمانية، وكانت جميعها تبنى من الحجارة والجير المخلوط بالرماد ومخلفات الزيوت التي تعرف بإسم “الزيبار”، وشوارعها مبلطة بالحجارة وأسقفها كان الخشب مادة أساسية فيها، وهناك مبان تراثية علاها بناء حديث، وإن كان من أبشع ما رأيت ابراج المراقبة من المحتلين فوق أسطحة المباني فتشوه جماليات التراث وتخدش ذاكرة التاريخ.
ولعل من المسائل المهمة في حارات الخليل المختلفة أن المداخل للبيوت والأحواش تتصل بالشارع الرئيس عبر مدخل فرعي يتصل بساحة تلتف البيوتات والأحواش من حولها، فتمنح البيوت والسكان خصوصية جميلة وعلاقات اجتماعية جيدة، وهذه العلاقات الإجتماعية من مميزات أهل الخليل، فقد شاهدت العديد من العيادات والمراكز قامت على تبرعات أهل الخليل، إضافة لمشاركتهم ببناء المساجد والعيادات حتى خارج الخليل، وقد زرت برفقة الدكتور خالد سدر أثناء تجوالي عيادتين، احداهما عبارة عن مبنى ضخم تحت الانشاء في التشطيبات النهائية من عدة طبقات جرى التبرع بالأرض وتكاليف البناء والاعداد، ليكون مدرسة اطفال وقاعة اجتماعات واحتفالات وعيادات ومسجد ويحمل اسم “مدرسة وعيادة ومسجد المنشر”، وكلها بتبرعات خالصة لوجه الله تعالى من أهل الخليل، والثانية هي مركز الرامة الصحي، والبناء تم انشاءه بدعم غربي ولكن قام أبناء الخليل بالتبرع بالعيادات والأجهزة الصحية، ونجد على باب كل عيادة إسم المتبرع أو المتبرعة.
وفعليا لم يكن المسجد الابراهيمي المركز للبناء، فقد كان في طرفها في البدايات وإن كانت الأحياء التي بنيت اعتمدت أزقتها وطرقها لتكون طريقها نحو المسجد، ومثال لذلك نجد الطريق الرئيس والذي يبدأ من عين العسكر مرورا بحارة القزازين ومن عند قنطرة خزق الفار يتجه شمالا حتى ينتهي عند المسجد، ومن يجول دروب الخليل وأحيائها يجد تميزها عن غيرها من المدن، وتتميز الخليل بمحافظتها على الوجود البشري فيها عبر العصور المتعاقبة، ورغم الاحتلالات المتتالية للمدينة، ورغم التدمير والتهجير والقتل، إلا أن كل القنوات المائية والزوايا والمساجد والبرك والآثار والمباني التراثية تؤكد ذلك.
كلما جلت في البلدة القديمة متجها نحو المسجد الابراهيمي كنت لا أتوقف عن سماع همسات الحجارة وأرواح الأجداد تروي لي عبق التاريخ، فليس أجمل من الاستماع لهذه الهمسات وهي تروي لنا الحكايات، وتروي لنا تاريخ الخليل منذ أنشأها كنعان وحتى اللحظة التي كنا نجول في دروبها، فمدينة الخليل والتي استمدت اسمها الحالي من لقب سيدنا ابراهيم أبو الأنبياء حيث لقب بإسم خليل الرحمن، مدينة ضاربة الجذور في تاريخنا، فهي تعود حسب بعض المصادر الى أكثر من خمسة الآف عام، وحسب مصادر أخرى تزيد عن أربعة ألاف عام، ولكن من المثبت أن من أنشأها هم الكنعانيون، وسميت قرية أربع نسبة إلى الملك الكنعاني أربع وفي اللغة الآرمية (كريات أربع) ونجد الآن أقذر مستوطنة أقيمت في الخليل على أراضيها وقرب المسجد الابراهيمي وتضم فيها اشد المستوطنين الغزاة تطرفا، تحمل نفس الإسم في محاولة لتزوير وسرقة التراث والتاريخ الكنعاني لفلسطين، ونسبته لتراث عبراني مزور ليس له أي ذكر أو وجود، وتفسر بعض المصادر الإسم بأنه يعني التلال الأربعة أو القبائل الأربعة، وأنا أكثر ميلا لنسبتها للملك الكنعاني أربع، وهو أبو عَناق وكانوا يوصف وشعبه بالجبابرة، فالممالك الكنعانية في تلك الفترة وردت بأسماء حكامها مثل جبعون (الجيب) من قرى القدس نسبة لحاكمها جبعون، وبعدها سميت الخليل حبرون وبعض المصادر تنسب هذا الإسم للحبر وبما يعني التوثيق والكتابة، لكن أعتقد أن الاسم يعود للملك (حبري) الكنعاني، وهو ليس ملك حثي كما اشارت بعض المصادر وخاصة التوراتية، فالمملكة الحثية لم تكن في فلسطين فقد ظهر الحثيون بعد أن احتلوا مدينة بابل قبل الميلاد بحوالي 1600 عام تقريبا، وهم مجموعة شعوب خليطة تكونت من مزيج من الشعوب الهنداوروبية، كما كانت لغتهم أيضا خليط من اللغات، ومملكتهم ظهرت في شمال سورية ولم تعمر طويلا فسقطت وتمزقت، ولا يرد ذكر الحثيون في فلسطين الا عبر المصادر التوراتية كأفراد وليس شعوب، وما يؤكد كنعانية حبري أو عفرون كما يرد اسمه أحيانا، أنه وحسب المصادر التوراتية هو من باع المغارة الواقعة في الوادي على أطراف البلدة، وليس في تل الرميدة حيث التجمع السكاني للملكة الكنعانية لسيدنا ابراهيم بأربعمائة شاقل، والشاقل عملة كنعانية، وهنا يبرز التزوير والسرقة مرة أخرى لدى الصهاينة، فالمصادر الأخرى تشير أن الملك حبري وهب سيدنا ابراهيم مغارة (مكفيلا) مجانا ليسكنها ولم يبيعها له، والمسجد الابراهيمي تم انشاؤه عليها، والصهاينة يستخدمون الشاقل عملة التداول من سنوات طويلة تحت ادعاء أنها كلمة عبرية وعملة إسرائيلية، وهي كنعانية الأصل والمعنى والتاريخ حتى في عهد سيدنا ابراهيم، الذي أتى الخليل قادما من مدينة أور السومرية، فوجد أبناء كنعان من يحكمون الأرض من فترة قديمة، وعملتهم الشاقل هي عملة التداول، وهذا يدحض كل الإدعاءات الصهيونية أن فلسطين لليهود، مضافا أن سيدنا ابراهيم كان موحدا ولم تكن هناك أصلا ديانة يهودية إلا في فترة لاحقة.
جولة الخليل ما زالت مستمرة، وفي الحلقة الثالثة القادمة سيكون لنا تجوال في أمكنة أخرى بالمدينة التراثية والتاريخية حتى نصل معا الى المسجد الإبراهيمي أو كما يسميه الغالبية الحرم الابراهيمي.