كشك المجنونة.. قصة قصيرة
مليكة الحامدي | سوريا
^ لم تكن غيداء مجرد امرأة تائهة في “كشك” صغير وسط ثياب قديمة و كومات من توالف المنازل تعلوها بعض الأواني الفضية المُتّشحة بالسواد ، بل كانت كلها عيوناً غائرة في ماضٍ رغيد راقد في إحدى الشقق السكنية المقابلة للكشك في حيّ صاخب كانت تقطنه طبقة فنية راقية في بغداد ..
و لإن غيداء تلقى ثراءها الروحي من نظراتها الممعنة في هيكل الشقة الخارجي كانت تستحمل مضايقات أطفال الحيِّ الذين كانوا يدورون حولها محاولين إيذاءها و هم يهتفون
كشك المجنونة .. كشك المجنونة ..
إلا أنّها كثيراً ما تبتهج كطفلة مُدللة حين تُمدّ لها أيادي الخير بالطعام و الشراب ….
في الشتاء تحاول سدّ الفُتحات على صقيعه بالثياب و قطع القماش الصغيرة ، لكنها لا تفلح تماماً في درء ما يفسد من دفء و أمان .
و في الصيف تلوذ إلى الرصيف خارج الكشك هرباً من الحشرات المتطفلة على حاجاتها، ولا تعود إليه حتى تتلاصق أجفانها لتغطّ في نوم ينسيها شارب الصرصور المرتعش و رائحة الخنفساء الكريهة .
أما في فَصلَيّ الربيع و الخريف فتبقى متنقلة بين مأواها و الرصيف ، ليراها أهل الحي بين ساعة و أخرى قد ظهرت بفستان يختلف عن سابقه مع ربطة شعر حيناً و حيناً بربطة عنق ملونة ، و حذاء بكعب رفيع و آخر مسطحٍ ترتديه الحوامل ، و تارة تحشو منطقة الوسط لديها بالثياب كإيحاء بحملها ، و تارة تطوّق خصرها بمنديل طويل كإشارة إلى رشاقتها، و لا يخفى على كل ذي نباهة أنها بتلك الحالة تتقلّب في فتنة الذكريات
هكذا مرّت عليها الفصول من سنوات عمرها دون أن يُعاد إليها مشهدٌ واحدٌ عاشته مع زوج عشقها و غمرها بالذهب و الحرير ..
سألها ذات يوم بائع البيتزا عن سرّها .. فبكت
و أشاحت وجهها بملامح تقول له : ارحم ذاكرتي فقد أنهكها الماضي ..
تركها البائع في ضعفها و سار إلى مطعمه
لم يتوانَ أهل الحي في محاولة إقناعها بالتوجه إلى المصح النفسي لاقتناعهم بأن لديها استجابات ذكية لمعظم المواقف و الأحاديث ، إلا أنها كانت ترفض بشدة و هي تصرخ وتتشبث في أرضها حتى يئس منها الجميع
فبقيت حبيسة المسافة التي تفصل بينها و بين شُقتها القديمة
في يومٍ صحوٍ رائق مرّت سيدة ذات قدر و جمال من أمام الكشك ، تجاوزته بضع خطوات، لكنها تراجعت لترى شيئاً لفت نظرها داخل الكشك ،
إنها امرأة من الماضي .. عجوز ذات تقاسيم ناعمة جميلة تشي بأمرأة كانت في زمن ما من مشاهيره ..
أوصلها التأمل الدقيق فيها و الصوت الذي عصف بشكّها إلى
أنها غيداء ..
صديقة المهنة المبدعة ..
الممثلة التي تصدّرت الشاشات بجمالها و روعة أدائها لأدوار مختلفة ..
ماذا تفعل هنا ؟ ما الذي حدث معها فأرداها عجوزاً تعسة ؟
جلست القرفصاء أمام غيداء و قالت مستنكرة
: غيدااااء … ( شدتسوين هنا ؟)
^ : ( دا ابيع ديناصورات و مصاصات و سمچ .. )
تجمدت الدموع في عينَي شيماء من هول الصدمة
و قامت لتكمل طريقها و هي تردد
: يا ربي ( هاي اتخبلت لو شنو ؟ .. ليش ؟
شصاير وياها ؟ )
لم تنم شيماء تلك الليلة ..
أخذها عالم غيداء الغريب إلى مسرح بغداد الكبير و استديوهاتها الفنية العريقة ، إلى تلك الحسناء الرشيقة التي كان يتنطع زملاء المهنة أحياناً بتوصيفها ..
أيعقل أن تتحول غيداء من غزالة صيد إلى هِرٍّ يختبئ في كشك قذر و لا يخرج منه إلا على قصعة ؟
في اليوم التالي ساقها المعروف لتزور غيداء و تحاول مساعدتها ..
بعد أكثر من جلسات حوار عصية على التفاهم .. كانت الجلسة المطولة معها و حديث شيماء عن ذكرياتهما السعيدة كفيل بأن ترضخ غيداء للمثول بين يدي الطبيب النفسي في المستشفى و تلقّي العلاج ..
………………….
غيداء تروي لشيماء ما حدث :
حلّ المساء و لم يعد طارق من الوزارة كما عادته ..
سألتُ الحاجب عنه هاتفياً فأخبرني أنه خرج من مكتبه في وقته المعتاد و لا يدري إلى أين توجه
ازداد قلقي .. طارق لا يتأخر عن بيته ، و إن فعل يخبرني عن سبب تأخيره قبل حدوثه ..
صنعتُ لابنتيّ الحليب و الكعك لتناما قبل عودته ،
لكني تذكرت أنه قال لي صباحاً
لقد اشتقت للجلوس مع ابنتَيَّ فلا تنيميهما باكراً ، دعيهما تأكلان السمك المشوي معنا ..
رحتُ ألعب معهما حتى العاشرة و النصف ، أخذ اضطرابي في ازدياد على غياب طارق الذي طال عن حده ، سألتُ عنه أهلي و أهله و بعض الأصدقاء ،
لم يفدني أحدهم بخبر
في الساعة الحادية عشرة و خمس و أربعين دقيقة و فيما كنت جالسة على حافة السرير في غرفة النوم أضع ألف احتمال لغيابه أدخِل عليّ طارق برفقة ثلاثة رجال “بوديكارد” مكمّماً و مقيداً بحبال غليظة ..
صرختُ ملء فمي فزعاً و استغراباً ، فكمّمني أحدهم سريعاً و ربطني بكرسي ثم أحضر ابنتَيَّ من غرفتهما ….
لقد كان الهلع الذي تلبّسهما تلك اللحظة مصّاص دماء جائع عثر على فريسة ……
وضعوهما على السرير إلى جانب طارق بعد ربطهما و تكميمهما أيضا ، ثم فتحوا باب الغرفة على مصراعيه و أخرجوني بالكرسي إلى الممر العريض المقابل للغرفة و هم يعبثون بجعاب السجائر المشتعلة في وجهي و شعري و بطني الذي بدأ جنيني الثالث يتخبط داخله ..
و عادوا إلى زوجي و ابنتيّ و قتلوهم بالرصاص ثم فروا هاربين
بينما بقيت في وحدتي مقيّدة ، منهارة ، و مهزومة حدّ الجنون ..
كنت أراقب آخر قطرة من دمائهم و هي تلتهم قلبي و تسلب عقلي بألف طعنة ..
تغيّبت تماماً .. و لم أجد نفسي إلا على سرير العناية المشددة في المشفى ..
أفقت بعقل توقف عند زمن لا يملك ميلاً متحركاً يطفّ بي فوق جثتي ابنتَيَّ ..
أفقت بروحٍ تغلغلت في مخدة طارق و لم تعرف كيف تسقط مع رأسه ..
عبثاً حاول الأهل و الأصدقاء النجاة بي ..
كان الأثير الممتد من عيني إلى نوافذ بيتي المغلقة هو ممر هوائي أتنفس به
أذكر و أنا بين الصحو و الإغماء حقيقة ترددت على ألسنة الجميع آنذاك مفادها أن زوجة طارق الأولى علمت بزواجنا السري فأقسمت أن تنتقم بطريقتها