شعرية الحضور والغياب: ” الصدى يخرج من الغرفة ” للسعودية هيفاء الجبري

أ. د. سعد التميمي | العراق


للشاعرة السعودية هيفاء الجبري ثلاثة دواوين: (تداعى له سائر القلب) و (البحر حجتي الأخيرة) و(الصدى يخرج من الغرفة) وقد تميزت تجربتها الشعرية بالنضج والتنوع، تمكنت فيها الشاعرة  من استعمال لغة مغايرة تشع بطاقة شعرية متوهجة، تنطلق من جرأة في كسر أفق التوقع لدى القاريء بالاستثمار الناجح للانزياح والمفارقة في خلق صور شعرية تقوم على التفاصيل اليومية تارة وعلى السرد تارة أخرى.

وفي ديوانها الأخير (الصدى يخرج من الغرفة) تتطلع الذات الشاعرة للتحرر من الهيمنة والتسلط ومقاومة القيود بأشكالها المختلفة،وقد عبرت عن ذلك من خلال تجنيد الموضوعات العامة والتفاصيل البسيطة للاشارة الى دلالات غائبة يستطيع القاريء الفطن الذي يسبر أغوار القصيدة للكشف عما يخفي الخطاب الأنثوي من بوح ومعاناة بسبب القيود الاجتماعية، ومن هنا كانت ثنائية الحضور والغياب بوصفها تقنية  تتحكم أحياناً في إنتاج المعاني والأفكار، فضلا عن أن الشاعرة نجحت من خلال هذه الثنائية في طرح أسئلة الوجود،فممارسة فعل اللغة (القصيدة) للوقوف في وجه الاقصاء الذي يمارسه المجتمع بحق المرأة يمثل الحضور، فاللغة هي نقطة الاتطال بين الشاعرة والواقع بجميع معطياته ،والألفاظ والصور والرموز والاشارات التي تبثها الشاعرة في ثنايا القصيدة هي القناة التي نصل من خلالها بعد تفكيك شغراتها الى عالم ذات الشاعرة ،فالقصيدة عند الشاعرة هيفاء الجبري فعل حضوري تمردي في مواجهة الغياب، وقد عبرت من خلاله عن هويتها وطرحت تساؤلاتها وهذا ما يكشف عنه عنوان الديوان الذي يعد نصا موازيا للمتن ودليلا يرشد المتلقي الى خبايا النص ودلالاته، فهو يقوم على بنية الحضور والغياب فـ(الغرفة) تحيل الى الغياب المتمثل  بالقيد أو السجن، أما (الصدى) فهو يحيل الى الحضور والرغبة بالتحرر والانطلاق، وهذا ما يؤكد الفعل (يخرج) الذي يتوسط الاسمين: الصدى(الحضور) والغرفة (الغياب) لما كان الفعل يدل على الحركة والتغير من جهة، وأن صيغة المضارع تدل على الاستقبال من جهةأخرى، وإنّ فاعله هو (الصدى) فإنّ ذلك يكشف رغبة الشاعرة واصرارها على كسر القيود التي تحد من حريتها في التعبير عن تطلعاتها، وهذا ما نجده في قصيدة (صدى) التي إتخذت الشاعرة من مطلعها عنوانا لهذا الديوان تقول فيها:
الصدى يخرج من الغرفة
في غرفة شديدة الفراغ
ألقيتُ السلامَ على الجدرانْ
فاندفع الصدى خارج الغرفة
حتى الصدى كان يريد الانعتاق
إخفاق
تعال يافراغ
كي نقاوم الصدى ببعض
الكلام الثـ(ــــقيل)
الصدى:
قيلْ
قيلْ
قيلْ
السجين يشبه الصدى كثيراً
لا يخرج من زنزانته إلا بنداء
فالسلام هو صوت الشاعرة الذي يتطلع الى الحرية ، ويأتي قديم الصفة (شديد) على الموصوف (الفراغ) ليصور حجم المعاناة تحت وطأة القيود والحصار، والشاعرة هنا تسقط اسئلتها الوجودية على الصدى وترمز بالغرفة الجدران الى قيود المجتمع لتعبر عن معاناة المرأة ، لتتجلى ثنائية الحضور والغياب بنيويا من خلال حضور هذه الألفاظ (البنية السطحية) ودلالة هذه الألفاظ (البنية العميقة)، الموحية بالفكرة الغائبة ظاهريا والحاضرة في ذات الشاعرة وذهن المتلقي الذي يستطيع الوصول اليها من خلال التأويل والتحليل، وبذلك يكون الغياب هو مركز الجمال في القصيدة، لأنه يعزز طاقتها الشعرية الاّ أن الشاعرة رغم امتلاكها فعل اللغة بقيت تعاني من الغياب ،وهذا ما عبرة عنه لفظة (اخفاق) فضلا عن الحوار الذي تقدمه الشاعرة بين الجدران والفراغ، لمقاومة الصدى ومنعه من الانعتاق بالكلام الثقيل، ونجاح الشاعرة من خلال قطع كلمة (ثقيل) لتجسيد صورة صوتية عبرت عن الصدى من خلال تكرار هذا الجزء من الكلمة (قيل) بما يحمله من دلالة على أنه كلام لا فعل، وفي صورة تشبيهية تقوم على القلب والمفارقة تشبه الشاعرة السجين بالصدى، والأصل تشبيه الصدى بالسجين فهو الصوت الذي يرتد بفعل الجدران والفراغ، وتختم القصيدة بأسلوب القصر إذ تقصر الخروج من الزنزانة بالنداء الذي يرمز به إلى التحرر من قيود بأشكالها المختلفة.
وتنوع شعرية الحضور والغياب على مستوى الموضوعات والأفكار التي تضمنها الديوان واللغة التي اختارتها الشاعرة للتعبير عن معان أرادت لها ان تكون غائبة، على أنها تركت بعض الشفرات التي يستطيع المتلقي الفطن الوصول اليها ،فعلاقات الغياب هى علاقات الترميز والمعنى أما علاقات الحضور فهى العلاقات الشكل وقد تجلت على مستوى البنية في استهلال الديوان الذي عنونته بـ(افتتاح) إذ تعبر الذات الشاعرة عن رؤيتها  فتقول:
 الزهرة ُ رائحةُ  الأرضِ المشغولةِ
 بالتفكير
 الزهرة ُ رائحة ُ الفكرة
 من يجعل َ هذي الأرضُ تفكر دوماً
كيما يهدي  كلُّ حبيب ِ في الأرض 
 حبيبتَهُ زهرتَها أبداً
إذ ترمز الشاعرة للمرأة الزهرة التي تمنح (الأرض) المنشغلة بالتفكير (العقل) نكهتها (العاطفة) لتقابل ثنائية (الزهرة ،الفكرة) ثنائية (العاطفة، العقل) لتجعل من المرأة التي لم تأخذ مكانها الذي تستحقه في المجتمع عنوانا للحب الذي يمنح الحياة جمالا وعطرا، فهي من تحرك عاطفة الحبيب ليمنح الحب للمرأة(زهرتها أبداً)، ولنفي التبعية والتطلع للاستقلال والتحرر من كل قيد توظف الشاعر في تناص موفق المثل (كل يغني على ليلاه) في قصيدة حملت عنوان (كل يغني على….):
لأنني لستُ ليلى
فلن أُبيحَ الأغاني
كلٌّ يغنّي عليها
فهل عَدِمنَ :” الغواني”!
وهل لليلى عناءٌ
لئنْ يكُنْ سَمعُ ليلى
أولى بحزنِ الكَمانِ
فربَّ شدْوٍ حزينٍ
أفاضَ بُؤسَ الأماني
فالشاعرة تستثمر بذكاء (ليلى) للتعبير عن فكرة تقوم على ثنائية الحضور والغياب فالمثل يضرب لقصر الاهتمام على ما يهم الانسان لوحده وهو يمثل الغياب ،أما الأسم الذي تعبر به الشاعرة عن المرأة التي تعاني من القيود بشكل مطلق فانه يمثل الحضور ،ولذلك بدأت الشاعرة بنفي صلتها بهذا الأسم لأنها تتطلع الى التحرر والاستقلالية،ويأتي توظيف الاستفهام (وهل لليلى عناء) لانكار العناء وإن وجد فهو من المجتمع وتأتي اضافة(الحزن) الى (الكمان) لتشكل صورة بوح المرأة بمعاناتها.
أخيرا نؤكد أن الديون تضمن قضايا أخرى تتطلب الوقوف عندها منها القصائد القصيرة التي عكست قدرة الشاعرة على التكثيف واستثمار سيميائية الألفاظ والتراكيب للتعبير عن موضوعات مختلفة مثل(هموم، عنلية تضليل،غرق،الكاتب، مفاضلة، طبقيّة، الجائعون).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى